FX-Arabia

جديد المواضيع











الملاحظات

استراحة اف اكس ارابيا استرح هنا و انسى عناء السوق و التداول



إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 06-08-2012, 04:24 PM   المشاركة رقم: 21
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الحادي والعشرين
عَنِ أَبيْ عَمْرٍو، وَقِيْلَ،أَبيْ عمْرَةَ سُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَارَسُوْلَ اللهِ قُلْ لِيْ فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ؟ قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"[152].
الشرح
قوله: "قل لي في الإسلام " أي في الشريعة.
قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك يعني قولاً يكون حداً فاصلاً جامعاً مانعاً.
فقال له: "قُل آمَنْتُ بِاللهِ" وهذا في القلب "ثُمَّ استَقِم" على طاعته، وهذا في الجوارح.
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين: "آمَنْتُ بِاللهِ" محل الإيمان القلب "ثُمَّ استَقِم" وهذا في عمل الجوارح.
وهذا حديث جامع، من أجمع الأحاديث.
فقوله: قُل آمَنْتُ يشمل قول اللسان وقول القلب.
قال أهل العلم:قول القلب:هو إقراره واعترافه.
"آمَنْتُ بِاللهِ" أي أقررت به على حسب ما يجب علي من الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ثم بعد الإيمان "اِستَقِم" أي سر على صراط مستقيم، فلا تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً.
هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله.
فلننظر: الإيمان بالله يتضمن الإخلاص له في العبادة، والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته عزّ وجل، فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما: الإخلاص والمتابعة.

من فوائد هذا الحديث:
.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وذلك لما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من الأسئلة.
.2عقل أبي عمرو أو أبي عمرة رضي الله عنه حيث سأل هذا السؤال العظيم الذي فيه النهاية، ويستغنى عن سؤال أي أحد.
.3أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عن العلم السؤال الجامع المانع حتى لا تشتبه عليه العلوم وتختلط، لقوله: "قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك"،وفي هذا إشكال وهو قوله: "لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك" فهل يمكن أن يسأل الصحابة رضي الله عنهم أحداً غير رسول الله في أمور الدين؟
فالجواب: نعم ، يمكن أن يسأل أحدهم مَنْ يفوقه في العلم، وهذا وارد، ثم هذه الكلمة تقال حتى وإن لم يكن يسأل ، لكن تقال من أجل أن يهتم المسؤول بالجواب.
.4أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم حيث جمع كل الدين في كلمتين:"آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم" وهذا يشهد له قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13) وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)[هود:112] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
.5التعبير بكلمة الاستقامة دون التعبير المشهور عند الناس الآن بكلمة الالتزام، فإن الناس اليوم إذا أرادوا أن يثنوا على شخص بالتمسك بالدين قالوا: فلان ملتزم، والصواب أن يقال: فلان مستقيم كما جاء في القرآن والسنة .
.6أن من قصر في الواجبات فما استقام، بل حصل عنده انحراف، والانحراف تكون شدته بقدر ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات.
.7أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه دائماً: هل هو مستقيم أو غير مستقيم؟ فإن كان مستقيماً حمد الله وأثنى عليه وسأل الله الثبات، وإن كان غير مستقيم وجب عليه الاستقامة وأن يعدل سيره إلى الله عزّ وجل.
فمن أخر الصلاة عن وقتها فهو غير مستقيم ، لأنه أضاع الصلاة.
ومن منع الزكاة فهو غير مستقيم لأنه أضاع الزكاة.
ورجل يعتدي على الناس في أعراضهم فغير مستقيم، لفعل المحرم.
ورجل يغش الناس ويخادعهم في البيع والشراء والإجارة والتأجير وغير ذلك فهذا غير مستقيم.
فالاستقامة وصف عام شامل لجميع الأعمال ، والله الموفق.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 06-08-2012, 04:24 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الحادي والعشرين
عَنِ أَبيْ عَمْرٍو، وَقِيْلَ،أَبيْ عمْرَةَ سُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَارَسُوْلَ اللهِ قُلْ لِيْ فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ؟ قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"[152].
الشرح
قوله: "قل لي في الإسلام " أي في الشريعة.
قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك يعني قولاً يكون حداً فاصلاً جامعاً مانعاً.
فقال له: "قُل آمَنْتُ بِاللهِ" وهذا في القلب "ثُمَّ استَقِم" على طاعته، وهذا في الجوارح.
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين: "آمَنْتُ بِاللهِ" محل الإيمان القلب "ثُمَّ استَقِم" وهذا في عمل الجوارح.
وهذا حديث جامع، من أجمع الأحاديث.
فقوله: قُل آمَنْتُ يشمل قول اللسان وقول القلب.
قال أهل العلم:قول القلب:هو إقراره واعترافه.
"آمَنْتُ بِاللهِ" أي أقررت به على حسب ما يجب علي من الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ثم بعد الإيمان "اِستَقِم" أي سر على صراط مستقيم، فلا تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً.
هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله.
فلننظر: الإيمان بالله يتضمن الإخلاص له في العبادة، والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته عزّ وجل، فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما: الإخلاص والمتابعة.

من فوائد هذا الحديث:
.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وذلك لما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من الأسئلة.
.2عقل أبي عمرو أو أبي عمرة رضي الله عنه حيث سأل هذا السؤال العظيم الذي فيه النهاية، ويستغنى عن سؤال أي أحد.
.3أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عن العلم السؤال الجامع المانع حتى لا تشتبه عليه العلوم وتختلط، لقوله: "قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك"،وفي هذا إشكال وهو قوله: "لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك" فهل يمكن أن يسأل الصحابة رضي الله عنهم أحداً غير رسول الله في أمور الدين؟
فالجواب: نعم ، يمكن أن يسأل أحدهم مَنْ يفوقه في العلم، وهذا وارد، ثم هذه الكلمة تقال حتى وإن لم يكن يسأل ، لكن تقال من أجل أن يهتم المسؤول بالجواب.
.4أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم حيث جمع كل الدين في كلمتين:"آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم" وهذا يشهد له قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13) وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)[هود:112] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
.5التعبير بكلمة الاستقامة دون التعبير المشهور عند الناس الآن بكلمة الالتزام، فإن الناس اليوم إذا أرادوا أن يثنوا على شخص بالتمسك بالدين قالوا: فلان ملتزم، والصواب أن يقال: فلان مستقيم كما جاء في القرآن والسنة .
.6أن من قصر في الواجبات فما استقام، بل حصل عنده انحراف، والانحراف تكون شدته بقدر ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات.
.7أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه دائماً: هل هو مستقيم أو غير مستقيم؟ فإن كان مستقيماً حمد الله وأثنى عليه وسأل الله الثبات، وإن كان غير مستقيم وجب عليه الاستقامة وأن يعدل سيره إلى الله عزّ وجل.
فمن أخر الصلاة عن وقتها فهو غير مستقيم ، لأنه أضاع الصلاة.
ومن منع الزكاة فهو غير مستقيم لأنه أضاع الزكاة.
ورجل يعتدي على الناس في أعراضهم فغير مستقيم، لفعل المحرم.
ورجل يغش الناس ويخادعهم في البيع والشراء والإجارة والتأجير وغير ذلك فهذا غير مستقيم.
فالاستقامة وصف عام شامل لجميع الأعمال ، والله الموفق.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:25 PM   المشاركة رقم: 22
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثاني والعشرون

عَنْ أَبيْ عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَرَأَيتَ إِذا صَلَّيْتُ المَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضانَ، وَأَحلَلتُ الحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلى ذَلِكَ شَيئاً أَدخُلُ الجَنَّة ؟ قَالَ: نَعَمْ"[153] رواه مسلم

الشرح

يقول جابر رضي الله عنه: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الرجل لا نحتاج لمعرفة عينه، لأن المقصود القضية التي وقعت، ولا نحتاج إلى التعب في البحث عنه،اللهم إلا أن يكون تعيينه مما يختلف به الحكم فلابد من التعيين.

وقوله "أَرَأَيتَ" بمعنى أخبرني.

إِذا "صَليتُ المَكتوبَات" وهن خمس صلوات في اليوم والليلة كما قال عزّ وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(النساء: الآية103) وغير الخمس لا يجب إلا لسبب يقتضيه، وهذا يُعرَف بالتأمل.

" وَصمتُ رَمَضَان" أي الشهر المعروف.

والصيام في اللغة الإمساك عن أي شيء،وفي الشرع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبداً لله عزّ وجل.

وقولنا: تعبداً لله خرج به ما لو أمسك عن المفطرات حمية لنفسه،أو تطبباً،فإن ذلك ليس بصيام شرعي،ولهذا لابد من تقييد التعاريف الشرعية بالتعبد.

" وَأَحلَلتُ الحَلالَ" أي فعلت الحلال معتقداً حله، هذا معنى قوله: "أَحلَلت" لأن أحل الشيء لها معنيان:

المعنى الأول:الاعتقاد أنه حلال.

المعنى الثاني:العمل به.

"وَحَرَّمتُ الحَرَامَ" أي اجتنبت الحرام معتقداً تحريمه.

ولكن النووي -رحمه الله- بعد أن ساق الحديث لم يقيد الحرام بكونه معتقداً تحريمه،لأن اجتناب الحرام خير وإن لم يعتقد أنه حرام، لكن إذا اعتقد أنه حرام صار تركه للحرام عبادة لأنه تركه لاعتقاده أنه حرام.

مثال ذلك: رجل اجتنب شرب الخمر،لكن لا على أنه حرام إلا أن نفسه لا تطيب به،فهذا لا إثم عليه، لكنه إذا تركه معتقداً تحريمه وأنه تركه لله صار مثاباً على هذا،وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله في آخر الفوائد.

"أَدخُل الجَنة" يعني أأدخل الجنة، والجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عزّ وجل للمتقين، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،والجنة فيها فاكهة ونخيل ورمان وفيها لحم وماء وفيها لبن وعسل.

الاسم مطابق لأسماء ما في الدنيا ولكن الحقيقة مخالفة لها غاية المخالفة لقول الله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (السجدة:17)

وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ،وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ،وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر)[154]

فلا تظن أن الرمان الذي في الجنة كالرمان الذي في الدنيا، بل يختلف بجميع أنواع الاختلافات، لقوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17] ولو كان لا يختلف لكنا نعلم بهذا .

قال: نَعَم ونعم حرف جواب لإثبات المسؤول عنه، والمعنى: نعم تدخل الجنة .

من فوائد هذا الحديث:

.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال.

.2بيان غايات الصحابة رضي الله عنهم، وأن غاية الشيء عندهم دخول الجنة، لا كثرة الأموال، ولا كثرة البنين، ولا الترفه في الدنيا، ولهذا لما قضى أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسْأل ماذا تريد؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أِو غَيْرَ ذَلِكَ؟" قال:هو ذاك، قال: "فَأَعِنِّيْ عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ"[155] ، أي بكثرة الصلاة.

فهذا الرجل لم يسأل نقوداً ولا مواشي ولا قصوراً ولا حرثاً، بل سأل الجنة، مما يدل على كمال غاياتهم رضي الله عنهم.

.3أن الإنسان إذا اقتصر على الصلاة المكتوبة فلا لوم عليه، ولا يحرم من دخول الجنة ، لقوله: "أَرَأَيتَ إِذا صَليتُ المَكتوبَات".

فإن قال قائل: قال الإمام أحمد - رحمه الله- فيمن ترك الوتر: هو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة؟

فالجواب: أن كونه رجل سوء لا يمنعه من دخول الجنة، فهو رجل سوء ترك الوتر وأقله ركعة مما يدل على أنه مهمل ولا يبالي إذ لم يطلب منه ركعات كثيرة، بل ركعة واحدة ومع ذلك يتركها.

.4أن الصلوات وكذلك الصوم من أسباب دخول الجنة،وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه[156].

.5أن لا يمتنع الإنسان من الحلال، لقوله: "وَأَحلَلتُ الحَلال" فكون الإنسان يمتنع من الحلال لغير سبب شرعيٍّ مذموم وليس بمحمود.

.6إن الحرام: ما حرمه الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،وتحليل الحلال وتحريم الحرام هو عام في جميع المحللات وجميع المحرمات، ولهذا قال: أَدخُل الجَنة؟ قَالَ:نَعَم .

وفي هذا الحديث إشكال: أن الرجل قال: لم أزد على ذلك شيئاً. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم تدخل الجنة، مع أنه نقص من أركان الإسلام الزكاة والحج،والزكاة مفروضة قبل الصيام،يعني فلا يقال: لعل هذا الحديث قبل أن تفرض الزكاة، أما الحج فيمكن أن نقول إن هذا الحديث قبل فرض الحج،لكن لا يمكن أن نقول إنه قبل فرض الزكاة، فما الجواب عن هذا؟

الجواب أن يقال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال الرجل أنه ليس ذا مال، وعلم أنه إذا كان ذا مال فسوف يؤدي الزكاة،لأنه قال: "وَحَرَّمتُ الحَرَام" ومنع الزكاة من الحرام.

أما الحج فما أسهل أن نقول: لعل هذا الحديث قبل فرض الحج، لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة.

وأما قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )(البقرة: الآية196) فهذا فرض إتمامه لا ابتدائه. وقد يقال: ذلك داخل في قوله: "حَرَّمتَ الحَرَامَ" لأن ترك الحج حرام وترك الزكاة حرام.

.7أن الجواب بـ: نعم إعادة للسؤال، لأن قوله: أَأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ يعني تدخل الجنة، ولهذا لوسئل الرجل فقيل له: أطلّقتَ امرأتك؟ قال: نعم، فإنها تطلق لأن قوله:نعم، أي طلقتها.

ولو أوجب الولي عقد النكاح وقال للرجل: زوجتك ابنتي، فقلنا له: أَقَبلْتَ؟ قال: نعم، فإنه يكفي في القبول، لأن: نعم كإعادة السؤال.

وهكذا في كل موارد: نعم اعتبرها إعادة للسؤال.

ولو سئل: أوقفت بيتك؟ فقال: نعم، فيكون البيت وقفاً.

أبعتَ سيارتك على فلان؟ فقال: نعم، فيكون قد أقرّ بالبيع.

قال النووي - رحمه الله- ومعنى حَرَّمْتَ الحَرَامَ اجتنبته، ومعنى أَحْلَلْتَ الحَلالَ فعلته معتقداً حِلَّهُ). إهـ

وهناك معنى آخر غير الذي ذكره النووي - رحمه الله وهو: أن تعتقد أن الحرام حرام ولابد، لأنك إذا لم تعتقد أن الحرام حرام فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، وإذا لم تعتقد أن الحلال حلال فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، فلابد من أن تعتقد الحلال حلالاً، والحرام حراماً.

وتفسير النووي - رحمه الله- فيه شيء من القصور. والله أعلم.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 06-08-2012, 04:25 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثاني والعشرون

عَنْ أَبيْ عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَرَأَيتَ إِذا صَلَّيْتُ المَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضانَ، وَأَحلَلتُ الحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلى ذَلِكَ شَيئاً أَدخُلُ الجَنَّة ؟ قَالَ: نَعَمْ"[153] رواه مسلم

الشرح

يقول جابر رضي الله عنه: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا الرجل لا نحتاج لمعرفة عينه، لأن المقصود القضية التي وقعت، ولا نحتاج إلى التعب في البحث عنه،اللهم إلا أن يكون تعيينه مما يختلف به الحكم فلابد من التعيين.

وقوله "أَرَأَيتَ" بمعنى أخبرني.

إِذا "صَليتُ المَكتوبَات" وهن خمس صلوات في اليوم والليلة كما قال عزّ وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(النساء: الآية103) وغير الخمس لا يجب إلا لسبب يقتضيه، وهذا يُعرَف بالتأمل.

" وَصمتُ رَمَضَان" أي الشهر المعروف.

والصيام في اللغة الإمساك عن أي شيء،وفي الشرع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تعبداً لله عزّ وجل.

وقولنا: تعبداً لله خرج به ما لو أمسك عن المفطرات حمية لنفسه،أو تطبباً،فإن ذلك ليس بصيام شرعي،ولهذا لابد من تقييد التعاريف الشرعية بالتعبد.

" وَأَحلَلتُ الحَلالَ" أي فعلت الحلال معتقداً حله، هذا معنى قوله: "أَحلَلت" لأن أحل الشيء لها معنيان:

المعنى الأول:الاعتقاد أنه حلال.

المعنى الثاني:العمل به.

"وَحَرَّمتُ الحَرَامَ" أي اجتنبت الحرام معتقداً تحريمه.

ولكن النووي -رحمه الله- بعد أن ساق الحديث لم يقيد الحرام بكونه معتقداً تحريمه،لأن اجتناب الحرام خير وإن لم يعتقد أنه حرام، لكن إذا اعتقد أنه حرام صار تركه للحرام عبادة لأنه تركه لاعتقاده أنه حرام.

مثال ذلك: رجل اجتنب شرب الخمر،لكن لا على أنه حرام إلا أن نفسه لا تطيب به،فهذا لا إثم عليه، لكنه إذا تركه معتقداً تحريمه وأنه تركه لله صار مثاباً على هذا،وسيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله في آخر الفوائد.

"أَدخُل الجَنة" يعني أأدخل الجنة، والجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عزّ وجل للمتقين، فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،والجنة فيها فاكهة ونخيل ورمان وفيها لحم وماء وفيها لبن وعسل.

الاسم مطابق لأسماء ما في الدنيا ولكن الحقيقة مخالفة لها غاية المخالفة لقول الله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (السجدة:17)

وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِيْنَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ،وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ،وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر)[154]

فلا تظن أن الرمان الذي في الجنة كالرمان الذي في الدنيا، بل يختلف بجميع أنواع الاختلافات، لقوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة:17] ولو كان لا يختلف لكنا نعلم بهذا .

قال: نَعَم ونعم حرف جواب لإثبات المسؤول عنه، والمعنى: نعم تدخل الجنة .

من فوائد هذا الحديث:

.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال.

.2بيان غايات الصحابة رضي الله عنهم، وأن غاية الشيء عندهم دخول الجنة، لا كثرة الأموال، ولا كثرة البنين، ولا الترفه في الدنيا، ولهذا لما قضى أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اسْأل ماذا تريد؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أِو غَيْرَ ذَلِكَ؟" قال:هو ذاك، قال: "فَأَعِنِّيْ عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ"[155] ، أي بكثرة الصلاة.

فهذا الرجل لم يسأل نقوداً ولا مواشي ولا قصوراً ولا حرثاً، بل سأل الجنة، مما يدل على كمال غاياتهم رضي الله عنهم.

.3أن الإنسان إذا اقتصر على الصلاة المكتوبة فلا لوم عليه، ولا يحرم من دخول الجنة ، لقوله: "أَرَأَيتَ إِذا صَليتُ المَكتوبَات".

فإن قال قائل: قال الإمام أحمد - رحمه الله- فيمن ترك الوتر: هو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة؟

فالجواب: أن كونه رجل سوء لا يمنعه من دخول الجنة، فهو رجل سوء ترك الوتر وأقله ركعة مما يدل على أنه مهمل ولا يبالي إذ لم يطلب منه ركعات كثيرة، بل ركعة واحدة ومع ذلك يتركها.

.4أن الصلوات وكذلك الصوم من أسباب دخول الجنة،وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه[156].

.5أن لا يمتنع الإنسان من الحلال، لقوله: "وَأَحلَلتُ الحَلال" فكون الإنسان يمتنع من الحلال لغير سبب شرعيٍّ مذموم وليس بمحمود.

.6إن الحرام: ما حرمه الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ،وتحليل الحلال وتحريم الحرام هو عام في جميع المحللات وجميع المحرمات، ولهذا قال: أَدخُل الجَنة؟ قَالَ:نَعَم .

وفي هذا الحديث إشكال: أن الرجل قال: لم أزد على ذلك شيئاً. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم تدخل الجنة، مع أنه نقص من أركان الإسلام الزكاة والحج،والزكاة مفروضة قبل الصيام،يعني فلا يقال: لعل هذا الحديث قبل أن تفرض الزكاة، أما الحج فيمكن أن نقول إن هذا الحديث قبل فرض الحج،لكن لا يمكن أن نقول إنه قبل فرض الزكاة، فما الجواب عن هذا؟

الجواب أن يقال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال الرجل أنه ليس ذا مال، وعلم أنه إذا كان ذا مال فسوف يؤدي الزكاة،لأنه قال: "وَحَرَّمتُ الحَرَام" ومنع الزكاة من الحرام.

أما الحج فما أسهل أن نقول: لعل هذا الحديث قبل فرض الحج، لأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أو العاشرة.

وأما قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )(البقرة: الآية196) فهذا فرض إتمامه لا ابتدائه. وقد يقال: ذلك داخل في قوله: "حَرَّمتَ الحَرَامَ" لأن ترك الحج حرام وترك الزكاة حرام.

.7أن الجواب بـ: نعم إعادة للسؤال، لأن قوله: أَأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ يعني تدخل الجنة، ولهذا لوسئل الرجل فقيل له: أطلّقتَ امرأتك؟ قال: نعم، فإنها تطلق لأن قوله:نعم، أي طلقتها.

ولو أوجب الولي عقد النكاح وقال للرجل: زوجتك ابنتي، فقلنا له: أَقَبلْتَ؟ قال: نعم، فإنه يكفي في القبول، لأن: نعم كإعادة السؤال.

وهكذا في كل موارد: نعم اعتبرها إعادة للسؤال.

ولو سئل: أوقفت بيتك؟ فقال: نعم، فيكون البيت وقفاً.

أبعتَ سيارتك على فلان؟ فقال: نعم، فيكون قد أقرّ بالبيع.

قال النووي - رحمه الله- ومعنى حَرَّمْتَ الحَرَامَ اجتنبته، ومعنى أَحْلَلْتَ الحَلالَ فعلته معتقداً حِلَّهُ). إهـ

وهناك معنى آخر غير الذي ذكره النووي - رحمه الله وهو: أن تعتقد أن الحرام حرام ولابد، لأنك إذا لم تعتقد أن الحرام حرام فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، وإذا لم تعتقد أن الحلال حلال فإنك لم تؤمن بالحكم الشرعي، فلابد من أن تعتقد الحلال حلالاً، والحرام حراماً.

وتفسير النووي - رحمه الله- فيه شيء من القصور. والله أعلم.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:26 PM   المشاركة رقم: 23
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثالث والعشرون

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بنِ عَاصِم الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: )الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا( [157]رواه مسلم.

الشرح

قوله: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ أي نصفه، وذلك أن الإيمان - كما يقولون - تخلية وتحلية .

التخلية: بالطهور، والتحلية: بفعل الطاعات.

فوجه كون الطهور شطر الإيمان: أن الإيمان إما فعل وإما ترك.

والتّركُ تَطَهُّرٌ، والفعل إيجاد.

فقوله: "شَطْرُ الإِيْمَانِ" قيل في معناه: التخلي عن الإشراك لأن الشرك بالله نجاسة كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس)(التوبة: الآية28) فلهذا كان الطهور شطر الإيمان، وقيل: إن معناه أن الطهور للصلاة شطر الإيمان، لأن الصلاة إيمان ولا تتم إلا بطهور، لكن المعنى الأول أحسن وأعمّ.

"وَالحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَانَ" يعني قول القائل: الحمد لله يمتلئ الميزان بها، أي الميزان الذي توزن به الأعمال كما قال الله عزّ وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)

"وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ تَمْلآنِ - أو تَمْلأُ –" (أو) هذه شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال:تملأ ما بين السماء والأرض. والمعنى لا يختلف، ولكن لحرص الرواة على تحرّي الألفاظ يأتون بمثل هذا.

"سبحان الله والحمد لله": فيها نفي وإثبات. النفي في قوله: "سُبْحَانَ اللهِ" أي تنزيهاً لله عزّ وجل عن كل ما لايليق به، والذي ينزه الله تعالىعنه ثلاثة أشياء:

الأول: صفات النقص، فلا يمكن أن يتصف بصفة نقص.

الثاني: النقص في كماله، فكماله لايمكن أن يكون فيه نقص.

الثالث: مشابهة المخلوق.

ودليل الأول قول الله عزّ وجل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان:58)

فنفى عنه الموت لأنه نقص، وقوله: ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ)(البقرة: الآية255) فنفى عنه السِّنَة والنوم لأنهما نقص.

ودليل الثاني: قول الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)

فخلق هذه المخلوقات العظيمة قد يوهم أن يكون بعدها نقص أي تعب وإعياء فقال: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ).

ودليل الثالث: قول الله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) حتى في الكمال الذي هوكمال في المخلوق فالله تعالى لا يماثله.

فإن قال قائل: مماثلة المخلوق نقص، فلا حاجة إلى ذكره، ووجه كون مماثلة المخلوق نقصاً أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل قد قال الشاعر:

ألمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قدرهُ إذا قيل إنَّ السّيفَ أمضى من العصا

وهو حقيقة أمضى من العصا، لكن إذا قلت:أمضى من العصا فمعناه أنه سيف رديء، حيث قارنته بالعصا.

فنقول: ننص علىنفي المماثلة للأمور التالية:

الأول: لأنها جاءت في القرآن كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

الثاني: أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.

واعلم أن قولك: نفي المماثلة أولى من قولك: نفي المشابهة لأنه اللفظ الذي جاء في القرآن.

وَالحَمْدُ للهِ الحمد يكون على صفات الكمال، فالحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فتكون هذه الجملة: "سُبْحَانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ" فيها: نفي النقص بالأنواع الثلاثة، وإثبات الكمال.

"تَملآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" والذي بين السماء والأرض مسافة لايعلمها إلا الله عزّ وجل.

وظاهر الحديث: أنها تملأُ ما بين السماء والأرض ليس في منطقتك وحدك، بل في كل المناطق.

"وَالصَّلاةُ نورٌ" أي صلاة الفريضة والنافلة نور، نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور في الحشر، لأن الحديث مطلق، وجرّب تجد.

إذا صلّيت الصلاة الحقيقية التي يحضر بها قلبك وتخشع جوارحك تحس بأن قلبك استنار وتلتذّ بذلك غاية الالتذاذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[158] .

"والصَّدَقَةُ" الصدقة: بذل المال للمحتاج تقرّباً إلى الله عزّ وجل.

"بُرْهَانٌ" أي دليل على صدق إيمان المتصدّق.

وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولايبذل المحبوب إلا في طلب ماهوأحب، وهذا يدلّ على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة برهاناً.

وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ الصبر: حبس النفس عما يجب الصبر عنه وعليه، قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع:

الأول: صبر عن معصية الله: بمعنى أن تحبس نفسك عن فعل المحرّم حتى مع وجود السبب.

ومثاله: رجل حدثته نفسه أن يزني - والعياذ بالله - فمنع نفسه، فنقول: هذا صبر عن معصية الله.

وكما جرى ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فإن امرأة العزيز دعته إلى نفسها - والعياذ بالله - في حال هي أقوى ما يكون للإجابة، لأنها غلّقت الأبواب وقالت: هيت لك، أي تدعوه إلى نفسها، فقال: إنه ربي - أي سيدي _ أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون، يعني فإن خنته في أهله فأنا ظالم، ومن شدة الإلحاح همَّ بها كما قال الله عزّ وجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف: الآية24) ولم يفعل مع قوة الداعي وانتفاء الموانع، فهذا صبر عن معصية الله .

وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لاظلّ إلا ظله، وذكر منهم: "رَجُلاً دَعَتْهُ امرأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ"[159] .

الثاني: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة كرجل أراد أن يصلي، فدعته نفسه إلى الكسل، أو إلى الفراش، أو إلى الطعام الذي ليس بحاجة إليه،أو إلى محادثة الإخوان، ولكنه ألزم نفسه بالقيام للصلاة، فهذا صبر على طاعة الله.

الثالث: صبر على أقدار الله: فإن الله تعالى يقدر للعبد ما يلائم الطبيعة وما لايلائم، والذي لايلائم يحتاج إلى صبر، بأن يحبس نفسه عن التسخّط القلبي أو القولي أو الفعلي إذا نزلت به مصيبة.

فإذا نزل بالعبد مصيبة فإنه يحبس قلبه عن التسخط القلبي، وأن يقول إنه يرضى عن ربه عزّ وجل.

والتسخط اللساني: بأن لايدعو بالويل والثبور كما يفعل أهل الجاهلية.

والتسخط الفعلي: بأن لايشق الجيوب، ولايلطم الخدود، وما أشبه ذلك .

فهذا نسميه صبر على أقدار الله مع أنه كره أن يقع هذا الحادث.

وهناك مرتبة فوق الصبر وهي الرضا بأقدار الله، والرضا بأقدار الله أكمل حالاً من الصبر على أقدار الله.

والفرق: أن الصابر قد تألّم قلبه وحزن وانكسر، لكن منع نفسه من الحرام.

والراضي: قلبه تابع لقضاء الله وقدره، فيرضى ما اختاره الله له ولايهمّه، فهومتمشٍّ مع القضاء والقدر إيجاباً ونفياً.

ولهذا قال أهل العلم: إن الرضا أعلى حالاً من الصبر، وقالوا: إن الصبر واجب والرضا مستحب.

وأي أنواع الصبر الثلاثة أفضل؟

نقول: أما من حيث هو صبر فالأفضل الصبر علىالطاعة، لأن الطاعة فيها حبس النفس، وإتعاب البدن.

ثم الصبر عن المعصية، لأن فيه كفُّ النفس عن المعصية ثم الصبر على الأقدار، لأن الأقدار لاحيلة لك فيها، فإما أن تصبر صبر الكرام، وإما أن تسلو سُلُوَّ البهائم وتنسى المصيبة، هذا من حيث الصبر.

أما من حيث الصابر: فأحياناً تكون معاناة الصبر عن المعصية أشد من معاناة الصبر على الطاعة.

فلو أن رجلاً هُيئَ له شرب الخمر مثلاً، بل ودعي إلى ذلك وهو يشتهيه، ويجد معاناةمن عدم الشرب، فهو أشد عليه من أن يصلي ركعتين لاشك.

كذلك لو كان شابّاً ودعته امرأة إلى نفسها، وهي جميلة، والمكان خالٍ، والشروط متوفرة، فأبى، فهذا فيه صعوبة أصعب مما لو صلى عشرين ركعة، فهنا قد نقول: ثواب الصبر عن المعصية هنا أعظم من ثواب الصبر على الطاعة لما يجده هذا الإنسان من المعاناة . فيؤجر بحسب ماحصل له من المشقّة.

"وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ" ولم يقل: إنه نور، والصلاةقال: إنها نور. وذلك لأن الضياء فيه حرارة،كما قال الله عزّ وجل: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً )(يونس: الآية5) ففيه حرارة، والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاق على الإنسان، ولهذا جعل الصلاة نوراً، وجعل الصبر ضياءً لما يلابسه من المشقة والمعاناة.

"والقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ اَو عَلَيْكَ" القرآن هو كلام الله عزّ وجل الذي نزل به جبريل الأمين القوي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، لا تبديل فيه ولاتغيير، ولهذا وصف الله تعالى جبريل الذي هو رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قوي أمين كما قال الله عزّ وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير:19-21] ليتبيّن أنه عليه السلام أمين على القرآن قوي علىحفظه وعدم التلاعب به.

هذا القرآن كلام الله عزّ وجل، تكلّم به حقيقة، وسمعه جبريل عليه السلام، ونزل به علىقلب النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا القرآن الكريم هو كلام الله لفظه ومعناه، فالأمر والنهي والخبر والاستخبار والقصص كلها كلام الله عزّ وجل.

وقد ذكره الله تعالى بعد أن أقسم قسماً عظيماً فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[الواقعة:75-76] لو تعلمون بمعنى اعلموا، كما أقول لك: إن هذا لو تدري شيء كبير: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77) أكد الله عزّ وجل ذلك بالقسم وإن واللام (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة:78) وهو اللوح المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79)

أي لايمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، فالضمير لايعود على القرآن أو المصحف.

وكونه في كتاب مكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في لوح محفوظ، أو أن المكتوب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا؟

الجواب: الأول، لكن يبقى النظر كيف يكتب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالةعلى المضي مثل قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)(آل عمران: الآية121) ومثل قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ)(المجادلة: الآية1) وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسمَع مجادلتها؟

فالجواب: أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، كما أنه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عزّ وجل بقوله كن فيكون، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو مما تطمئن له النفس.

وكنت قبلاً أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن لا القرآن،بناءً علىأنه يَرِدُ بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196) والذي في زبر الأولين ليس القرآن، بل ذكر القرآن والتنويه عنه،ولكن بعد أن اطلعت على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - جزاه الله خيراً - انشرح صدري إلى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ ولامانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل.

هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن، أما أهل البدع فحرفوا وبدلوا وغيرّوا فقالوا: هذا القرآن ليس كلام الله،ولكنه عبارةعن كلام الله، لأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأما الصوت والحروف فإنها ليست كلام الله بل هي عبارةعن كلام الله. وعلى هذا يكون هذا القرآن الذي بأيدينا مخلوق، خلقه الله ليعبر عما في نفسه، وهذا قول الأشاعرة.

وقال المعتزلة: كلام الله عزّ وجل ليس المعنى القائم بنفسه،لكن كلام الله مخلوق كسائر المخلوقات، يخلق الله كلاماً ويضيفه إليه إضافة تشريف كما أضاف إلى نفسه الناقة،وكما أضاف إلى نفسه المساجد، وكما أضاف إلى نفسه البيت.

والفرق بين قول الأشاعرة وقول المعتزلة:

قال المحققون إنه لافرق، بل المعتزلة خير من الأشاعرة في هذا.

فالمعتزلة يقولون: هذا القرآن الذي بين أيدينا كلام الله.

والأشاعرة يقولون: عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.

وقد اتفق الجميع على أن ما بين دفّتي المصحف مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هذا كلام الله خلقه كما خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وأضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف كما أضاف المساجد إليه كما قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) (البقرة: الآية114) وكما أضاف الكعبة إليه فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ )(الحج: الآية26) وكما أضاف الناقة إليه فقال: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(الشمس: الآية13) وقال الأشاعرة:كلام الله هو المعنى القائم بنفسه وخلق أصواتاً سمعها جبريل عبارة عما في نفسه، وعلى هذا فالقرآن على مذهب الأشاعرة مخلوق، لكن قالوا: إنه عبارة عن كلام الله، والمعتزلة قالوا: هو كلام الله.

أما نحن فنقول: هذا القرآن كلام الله غير مخلوق، ونقول: ليس كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، المعنى القائم بنفسه علم وليس بكلام حتى يتكلم به الله عزّ وجل.

إذاً هذا القرآن - الذي نسأل الله أن يجعله حجة لنا - كلام الله حقاً، تكلم به حقاً، وسمعه جبريل حقاً، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوعاه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يتعجل أن يتابع جبريل لئلا يفوته شيء فقال الله عزّ وجل له: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة:16-17] حيث التزم الله تعالى بجمعه وقرآنه(فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(القيامة: الآية18) أي قرأه جبريل، وأضاف قراءة جبريل إلى نفسه عزّ وجل لأن جبريل رسوله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ،فأضاف فعل جبريل إلى نفسه لأنه هوا لذي أرسله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19)

التزام من الله عزّ وجل أوجبه علىنفسه أن يجمع القرآن، وأن يقرأه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يبيّنه .

هذا القرآن الكريم له فضائل عظيمة،وممن كتب في فضائله ابن كثير - رحمه الله - رسالة سماها فضائل القرآن، وهي مفيدة .

"القُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أَو عَليكَ" يكون حجة لك إذا قمت بما يجب له من نصيحة وقد سبق في حديث تميم الداري رضي الله عنه النصيحة لله ولكتابه،وسبق هناك شرح النصيحة للكتاب فليرجع إليه .

يكون القرآن حجة لك إذا نصحت له، ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له.

مثال ذلك: قول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )(البقرة: الآية43) هنا رجلان: أحدهما لم يقم الصلاة فيكون القرآن حجة عليه، والثاني أقام الصلاة فيكون القرآن حجة له.

ورجل آخر لم يؤت الزكاة فالقرآن حجة عليه، والثاني آتى الزكاة فالقرآن حجة له.

وبهذه المناسبة أودّ أن أذكّر نفسي وإيّاكم بمسألة مهمة وهي:

كلنا يتوضّأ إذا أراد الصلاة،لكن أكثر الأحيان يريد الإنسان أن يقوم بشرط العبادة فقط، وهذا لابأس، ويحصل به المقصود، لكنْ هناك شيء أعلى وأتم:

أولاً: إذا أردت أن تتوضأ استشعر أنك ممتثل لأمر الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(المائدة: الآية6) حتىيتحقق لك معنىالعبادة.

ثانياً: إذا توضأت استشعر أنك متبع رسول الله ،فإنه قال: "مَنْ تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ"[160] حينئذٍ يكون الإخلاص والمتابعة .

ثالثاً:احتسب الأجر على الله عزّ وجل بهذا الوضوء، لأن هذا الوضوء يكفر الخطايا، فتخرج خطايا اليد مع آخر قطرة من قطرات الماء بعد غسل اليد، وهكذا البقية.

هذه المعاني الثلاثة العظيمة الجليلة أكثر الأحيان نغفل عنها، كذلك إذا أردت أن تصلي وقمت للصلاة استشعر أمر الله بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة:43] ثم استشعر أنك تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "صَلوا كَمَا رَأَيتُموني أُصَلي"[161] ثم احتسب الأجر،لأن هذه الصلاة كفارة لما بينها وبين الصلاة الأخرى، وهلم جراً.

يفوتنا هذا كثيراً ولذلك تجدنا- نسأل الله أن يعاملنا بعفوه - لانصطبغ بآثار العبادة كما ينبغي وإلا فنحن نشهد بالله أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن مَنْ مِنَ الناس إذا صلى تغير فكره ونهته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! اللهم إلا قليل، لأن المعاني المقصودة مفقودة.

قوله: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو" أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل.

"فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.

ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق،ولهذا قال:

"فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا" فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)(البقرة: الآية207) يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.

والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله عزّ وجل حيث أمضى عمره خسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.

لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.

وانظر إلى هذا الحديث: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً.

من فوائد هذا الحديث:

.1الحث على الطهور الحسي والمعنوي، وجه ذلك أنه قال: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ"

.2أن الإيمان يتبعض، فبعضه فعل وبعضه ترك، وهو كذلك.

.3فضيلة حمد الله عزّ وجل حيث قال: إنها تملأ الميزان.

.4إثبات الميزان، والميزان جاء ذكره في القرآن عدة مرات، جاء ذكره مجموعاً وذكره مفرداً فقال الله عزّ وجلنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةوَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء:47] وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (القارعة:6) وجاء ذكره في السنة صريحاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلى اللِسانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحمَنِ: سُبحَانَ الله وَ بِحَمدِهِ سُبحَانَ الله العَظيم"[162] وكذلك في هذ الحديث.

وهذا الميزان هل هو حسي أو معنوي؟

قالت المعتزلة: إنه معنوي ، وهو كناية عن إقامة العدل.

والقول الصحيح: إنه حسي، له كفتان وله لسان،توزن به الأعمال الصالحة والسيئة.

وهنا يرد إشكال: كيف يوزن العمل وهو ليس بجسم، وكيف الحمد تملأ الميزان وهي ليست بجسم؟

والجواب عن كل هذا سهل، وهو: أن الله عزّ وجل قادر على أن يجعل الأعمال أجساماً والمعاني أجساماً، فإنه على كل شيء قدير عزّ وجل، ألم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان تظلان صاحبهما[163] ،وهما عمل، لكن الله على كل شيء قدير.

أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة فيطلعون ويشرئبُّون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، يقال: يا أهل النار، فيطلعون ويشرئبون، ويقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون:نعم، هذا الموت ، ثم يذبح بين الجنة والنار ويقال: ياأهل الجنة خلود ولا موت، ياأهل النار خلود ولا موت[164] ، والموت معنوي.

فالمهم أن نقول: إن الميزان يوم القيامة حسي، حقيقي، توزن به الأعمال، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فقد خسروا أنفسهم .

.5فضيلة الجمع بين سبحان الله والحمد لله لقوله "سُبحَانَ الله وَ الحَمدُ لِلهِ تَملآنِ مَا بَينَ السَمَاءِ وَ الأَرضِ" ووجه ذلك أن الجمع بينهما جمع بين نفي العيوب والنقائص وإثبات الكمالات.

ففي "سُبحَانَ الله" نفي العيوب والنقائص، وفي "الحَمدُ لِلهِ" إثبات الكمالات.

.6أن الصلاة نور ويتفرع على هذا:

الحث على كثرة الصلاة. ولكن يرد علينا أن كثيراً من المصلين وكثيراً من الصلوات من المصلي الواحد لا يشعر الإنسان بأنها نور، فما الجواب؟

الجواب أن نقول: إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا إشكال فيه، لكن عدم استنارة القلب لخلل في السبب أو وجود مانع.

فمن خلط صلاته برياء فهنا خلل في السبب، لأنه لم يخلص.

ومن صلى لكن قلبه يتجول يميناً وشمالاً فهنا مانع يمنع من كمال الصلاة فلا تحصل النتيجة، وقس على هذا كل شيء رتب الشرع عليه حكماً وتخلف فاعلم أن ذلك إما لوجود مانع، أو لاختلال سبب، وإلا فكلام الله عزّ وجل حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق.

.7الحث على الصدقة، لقوله: "الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ".

.8أن بذل المحبوب يدل على صدق الباذل، والمحبوب الذي يُبذَل في الصدقة هو المال.

.9الحث على الصبر وأنه ضياء وإن كان فيه شيء من الحرارة، لكنه ضياء ونور لقوله: "وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ".

.10أن حامل القرآن إما غانم وإما غارم، وليس هناك مرتبة لا له ولا عليه، إما للإنسان وإما على الإنسان، ويتفرع على هذه الفائدة:

أن يحاسب الإنسان نفسه هل عمل بالقرآن فيكون حجة له،أو لا، فيكون حجة عليه فليستعتب.

.11عظمة القرآن وأنه لن يضيع هكذا سدىً، بل إما للإنسان وإما على الإنسان.

.12بيان حال الناس وأن كل الناس يعملون من الصباح، وأنهم يبيعون أنفسهم، فمن باعها بعمل صالح فقد أعتقها، ومن باعها بعمل شيء فقد أوبقها.

.13أن الحرية حقيقة هي القيام بطاعة الله عزّ وجل، وليس إطلاق الإنسان نفسه ليعمل كل سيء أراده، قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:

هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان

فكل إنسان يفر من عبادة الله فإنه سيبقى في رق الشيطان .



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 06-08-2012, 04:26 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثالث والعشرون

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بنِ عَاصِم الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: )الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا( [157]رواه مسلم.

الشرح

قوله: الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ أي نصفه، وذلك أن الإيمان - كما يقولون - تخلية وتحلية .

التخلية: بالطهور، والتحلية: بفعل الطاعات.

فوجه كون الطهور شطر الإيمان: أن الإيمان إما فعل وإما ترك.

والتّركُ تَطَهُّرٌ، والفعل إيجاد.

فقوله: "شَطْرُ الإِيْمَانِ" قيل في معناه: التخلي عن الإشراك لأن الشرك بالله نجاسة كما قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس)(التوبة: الآية28) فلهذا كان الطهور شطر الإيمان، وقيل: إن معناه أن الطهور للصلاة شطر الإيمان، لأن الصلاة إيمان ولا تتم إلا بطهور، لكن المعنى الأول أحسن وأعمّ.

"وَالحَمْدُ للهِ تَمْلأُ المِيزَانَ" يعني قول القائل: الحمد لله يمتلئ الميزان بها، أي الميزان الذي توزن به الأعمال كما قال الله عزّ وجل: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)

"وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ تَمْلآنِ - أو تَمْلأُ –" (أو) هذه شك من الراوي، يعني هل قال: تملآن ما بين السماء والأرض، أو قال:تملأ ما بين السماء والأرض. والمعنى لا يختلف، ولكن لحرص الرواة على تحرّي الألفاظ يأتون بمثل هذا.

"سبحان الله والحمد لله": فيها نفي وإثبات. النفي في قوله: "سُبْحَانَ اللهِ" أي تنزيهاً لله عزّ وجل عن كل ما لايليق به، والذي ينزه الله تعالىعنه ثلاثة أشياء:

الأول: صفات النقص، فلا يمكن أن يتصف بصفة نقص.

الثاني: النقص في كماله، فكماله لايمكن أن يكون فيه نقص.

الثالث: مشابهة المخلوق.

ودليل الأول قول الله عزّ وجل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان:58)

فنفى عنه الموت لأنه نقص، وقوله: ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ)(البقرة: الآية255) فنفى عنه السِّنَة والنوم لأنهما نقص.

ودليل الثاني: قول الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)

فخلق هذه المخلوقات العظيمة قد يوهم أن يكون بعدها نقص أي تعب وإعياء فقال: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ).

ودليل الثالث: قول الله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) حتى في الكمال الذي هوكمال في المخلوق فالله تعالى لا يماثله.

فإن قال قائل: مماثلة المخلوق نقص، فلا حاجة إلى ذكره، ووجه كون مماثلة المخلوق نقصاً أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل قد قال الشاعر:

ألمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قدرهُ إذا قيل إنَّ السّيفَ أمضى من العصا

وهو حقيقة أمضى من العصا، لكن إذا قلت:أمضى من العصا فمعناه أنه سيف رديء، حيث قارنته بالعصا.

فنقول: ننص علىنفي المماثلة للأمور التالية:

الأول: لأنها جاءت في القرآن كما في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

الثاني: أن تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.

واعلم أن قولك: نفي المماثلة أولى من قولك: نفي المشابهة لأنه اللفظ الذي جاء في القرآن.

وَالحَمْدُ للهِ الحمد يكون على صفات الكمال، فالحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فتكون هذه الجملة: "سُبْحَانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ" فيها: نفي النقص بالأنواع الثلاثة، وإثبات الكمال.

"تَملآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ" والذي بين السماء والأرض مسافة لايعلمها إلا الله عزّ وجل.

وظاهر الحديث: أنها تملأُ ما بين السماء والأرض ليس في منطقتك وحدك، بل في كل المناطق.

"وَالصَّلاةُ نورٌ" أي صلاة الفريضة والنافلة نور، نور في القلب، ونور في الوجه، ونور في القبر، ونور في الحشر، لأن الحديث مطلق، وجرّب تجد.

إذا صلّيت الصلاة الحقيقية التي يحضر بها قلبك وتخشع جوارحك تحس بأن قلبك استنار وتلتذّ بذلك غاية الالتذاذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[158] .

"والصَّدَقَةُ" الصدقة: بذل المال للمحتاج تقرّباً إلى الله عزّ وجل.

"بُرْهَانٌ" أي دليل على صدق إيمان المتصدّق.

وجه ذلك: أن المال محبوب للنفوس، ولايبذل المحبوب إلا في طلب ماهوأحب، وهذا يدلّ على إيمان المتصدق، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة برهاناً.

وَالصَّبرُ ضِيَاءٌ الصبر: حبس النفس عما يجب الصبر عنه وعليه، قال أهل العلم: والصبر ثلاثة أنواع:

الأول: صبر عن معصية الله: بمعنى أن تحبس نفسك عن فعل المحرّم حتى مع وجود السبب.

ومثاله: رجل حدثته نفسه أن يزني - والعياذ بالله - فمنع نفسه، فنقول: هذا صبر عن معصية الله.

وكما جرى ليوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، فإن امرأة العزيز دعته إلى نفسها - والعياذ بالله - في حال هي أقوى ما يكون للإجابة، لأنها غلّقت الأبواب وقالت: هيت لك، أي تدعوه إلى نفسها، فقال: إنه ربي - أي سيدي _ أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون، يعني فإن خنته في أهله فأنا ظالم، ومن شدة الإلحاح همَّ بها كما قال الله عزّ وجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف: الآية24) ولم يفعل مع قوة الداعي وانتفاء الموانع، فهذا صبر عن معصية الله .

وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلّهم الله في ظله يوم لاظلّ إلا ظله، وذكر منهم: "رَجُلاً دَعَتْهُ امرأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ"[159] .

الثاني: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة كرجل أراد أن يصلي، فدعته نفسه إلى الكسل، أو إلى الفراش، أو إلى الطعام الذي ليس بحاجة إليه،أو إلى محادثة الإخوان، ولكنه ألزم نفسه بالقيام للصلاة، فهذا صبر على طاعة الله.

الثالث: صبر على أقدار الله: فإن الله تعالى يقدر للعبد ما يلائم الطبيعة وما لايلائم، والذي لايلائم يحتاج إلى صبر، بأن يحبس نفسه عن التسخّط القلبي أو القولي أو الفعلي إذا نزلت به مصيبة.

فإذا نزل بالعبد مصيبة فإنه يحبس قلبه عن التسخط القلبي، وأن يقول إنه يرضى عن ربه عزّ وجل.

والتسخط اللساني: بأن لايدعو بالويل والثبور كما يفعل أهل الجاهلية.

والتسخط الفعلي: بأن لايشق الجيوب، ولايلطم الخدود، وما أشبه ذلك .

فهذا نسميه صبر على أقدار الله مع أنه كره أن يقع هذا الحادث.

وهناك مرتبة فوق الصبر وهي الرضا بأقدار الله، والرضا بأقدار الله أكمل حالاً من الصبر على أقدار الله.

والفرق: أن الصابر قد تألّم قلبه وحزن وانكسر، لكن منع نفسه من الحرام.

والراضي: قلبه تابع لقضاء الله وقدره، فيرضى ما اختاره الله له ولايهمّه، فهومتمشٍّ مع القضاء والقدر إيجاباً ونفياً.

ولهذا قال أهل العلم: إن الرضا أعلى حالاً من الصبر، وقالوا: إن الصبر واجب والرضا مستحب.

وأي أنواع الصبر الثلاثة أفضل؟

نقول: أما من حيث هو صبر فالأفضل الصبر علىالطاعة، لأن الطاعة فيها حبس النفس، وإتعاب البدن.

ثم الصبر عن المعصية، لأن فيه كفُّ النفس عن المعصية ثم الصبر على الأقدار، لأن الأقدار لاحيلة لك فيها، فإما أن تصبر صبر الكرام، وإما أن تسلو سُلُوَّ البهائم وتنسى المصيبة، هذا من حيث الصبر.

أما من حيث الصابر: فأحياناً تكون معاناة الصبر عن المعصية أشد من معاناة الصبر على الطاعة.

فلو أن رجلاً هُيئَ له شرب الخمر مثلاً، بل ودعي إلى ذلك وهو يشتهيه، ويجد معاناةمن عدم الشرب، فهو أشد عليه من أن يصلي ركعتين لاشك.

كذلك لو كان شابّاً ودعته امرأة إلى نفسها، وهي جميلة، والمكان خالٍ، والشروط متوفرة، فأبى، فهذا فيه صعوبة أصعب مما لو صلى عشرين ركعة، فهنا قد نقول: ثواب الصبر عن المعصية هنا أعظم من ثواب الصبر على الطاعة لما يجده هذا الإنسان من المعاناة . فيؤجر بحسب ماحصل له من المشقّة.

"وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ" ولم يقل: إنه نور، والصلاةقال: إنها نور. وذلك لأن الضياء فيه حرارة،كما قال الله عزّ وجل: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً )(يونس: الآية5) ففيه حرارة، والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاق على الإنسان، ولهذا جعل الصلاة نوراً، وجعل الصبر ضياءً لما يلابسه من المشقة والمعاناة.

"والقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ اَو عَلَيْكَ" القرآن هو كلام الله عزّ وجل الذي نزل به جبريل الأمين القوي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، لا تبديل فيه ولاتغيير، ولهذا وصف الله تعالى جبريل الذي هو رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قوي أمين كما قال الله عزّ وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير:19-21] ليتبيّن أنه عليه السلام أمين على القرآن قوي علىحفظه وعدم التلاعب به.

هذا القرآن كلام الله عزّ وجل، تكلّم به حقيقة، وسمعه جبريل عليه السلام، ونزل به علىقلب النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا القرآن الكريم هو كلام الله لفظه ومعناه، فالأمر والنهي والخبر والاستخبار والقصص كلها كلام الله عزّ وجل.

وقد ذكره الله تعالى بعد أن أقسم قسماً عظيماً فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[الواقعة:75-76] لو تعلمون بمعنى اعلموا، كما أقول لك: إن هذا لو تدري شيء كبير: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة:77) أكد الله عزّ وجل ذلك بالقسم وإن واللام (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة:78) وهو اللوح المحفوظ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79)

أي لايمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، فالضمير لايعود على القرآن أو المصحف.

وكونه في كتاب مكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في لوح محفوظ، أو أن المكتوب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا؟

الجواب: الأول، لكن يبقى النظر كيف يكتب قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالةعلى المضي مثل قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)(آل عمران: الآية121) ومثل قوله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ)(المجادلة: الآية1) وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسمَع مجادلتها؟

فالجواب: أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، كما أنه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عزّ وجل بقوله كن فيكون، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو مما تطمئن له النفس.

وكنت قبلاً أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن لا القرآن،بناءً علىأنه يَرِدُ بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء:196) والذي في زبر الأولين ليس القرآن، بل ذكر القرآن والتنويه عنه،ولكن بعد أن اطلعت على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - جزاه الله خيراً - انشرح صدري إلى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ ولامانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل.

هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن، أما أهل البدع فحرفوا وبدلوا وغيرّوا فقالوا: هذا القرآن ليس كلام الله،ولكنه عبارةعن كلام الله، لأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأما الصوت والحروف فإنها ليست كلام الله بل هي عبارةعن كلام الله. وعلى هذا يكون هذا القرآن الذي بأيدينا مخلوق، خلقه الله ليعبر عما في نفسه، وهذا قول الأشاعرة.

وقال المعتزلة: كلام الله عزّ وجل ليس المعنى القائم بنفسه،لكن كلام الله مخلوق كسائر المخلوقات، يخلق الله كلاماً ويضيفه إليه إضافة تشريف كما أضاف إلى نفسه الناقة،وكما أضاف إلى نفسه المساجد، وكما أضاف إلى نفسه البيت.

والفرق بين قول الأشاعرة وقول المعتزلة:

قال المحققون إنه لافرق، بل المعتزلة خير من الأشاعرة في هذا.

فالمعتزلة يقولون: هذا القرآن الذي بين أيدينا كلام الله.

والأشاعرة يقولون: عبارة عن كلام الله وليس كلام الله.

وقد اتفق الجميع على أن ما بين دفّتي المصحف مخلوق، لكن المعتزلة قالوا: هذا كلام الله خلقه كما خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وأضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف كما أضاف المساجد إليه كما قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ) (البقرة: الآية114) وكما أضاف الكعبة إليه فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ )(الحج: الآية26) وكما أضاف الناقة إليه فقال: (نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(الشمس: الآية13) وقال الأشاعرة:كلام الله هو المعنى القائم بنفسه وخلق أصواتاً سمعها جبريل عبارة عما في نفسه، وعلى هذا فالقرآن على مذهب الأشاعرة مخلوق، لكن قالوا: إنه عبارة عن كلام الله، والمعتزلة قالوا: هو كلام الله.

أما نحن فنقول: هذا القرآن كلام الله غير مخلوق، ونقول: ليس كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، المعنى القائم بنفسه علم وليس بكلام حتى يتكلم به الله عزّ وجل.

إذاً هذا القرآن - الذي نسأل الله أن يجعله حجة لنا - كلام الله حقاً، تكلم به حقاً، وسمعه جبريل حقاً، ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوعاه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يتعجل أن يتابع جبريل لئلا يفوته شيء فقال الله عزّ وجل له: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ*إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة:16-17] حيث التزم الله تعالى بجمعه وقرآنه(فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(القيامة: الآية18) أي قرأه جبريل، وأضاف قراءة جبريل إلى نفسه عزّ وجل لأن جبريل رسوله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ،فأضاف فعل جبريل إلى نفسه لأنه هوا لذي أرسله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:19)

التزام من الله عزّ وجل أوجبه علىنفسه أن يجمع القرآن، وأن يقرأه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يبيّنه .

هذا القرآن الكريم له فضائل عظيمة،وممن كتب في فضائله ابن كثير - رحمه الله - رسالة سماها فضائل القرآن، وهي مفيدة .

"القُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أَو عَليكَ" يكون حجة لك إذا قمت بما يجب له من نصيحة وقد سبق في حديث تميم الداري رضي الله عنه النصيحة لله ولكتابه،وسبق هناك شرح النصيحة للكتاب فليرجع إليه .

يكون القرآن حجة لك إذا نصحت له، ويكون حجة عليك إذا لم تنصح له.

مثال ذلك: قول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )(البقرة: الآية43) هنا رجلان: أحدهما لم يقم الصلاة فيكون القرآن حجة عليه، والثاني أقام الصلاة فيكون القرآن حجة له.

ورجل آخر لم يؤت الزكاة فالقرآن حجة عليه، والثاني آتى الزكاة فالقرآن حجة له.

وبهذه المناسبة أودّ أن أذكّر نفسي وإيّاكم بمسألة مهمة وهي:

كلنا يتوضّأ إذا أراد الصلاة،لكن أكثر الأحيان يريد الإنسان أن يقوم بشرط العبادة فقط، وهذا لابأس، ويحصل به المقصود، لكنْ هناك شيء أعلى وأتم:

أولاً: إذا أردت أن تتوضأ استشعر أنك ممتثل لأمر الله في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(المائدة: الآية6) حتىيتحقق لك معنىالعبادة.

ثانياً: إذا توضأت استشعر أنك متبع رسول الله ،فإنه قال: "مَنْ تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ"[160] حينئذٍ يكون الإخلاص والمتابعة .

ثالثاً:احتسب الأجر على الله عزّ وجل بهذا الوضوء، لأن هذا الوضوء يكفر الخطايا، فتخرج خطايا اليد مع آخر قطرة من قطرات الماء بعد غسل اليد، وهكذا البقية.

هذه المعاني الثلاثة العظيمة الجليلة أكثر الأحيان نغفل عنها، كذلك إذا أردت أن تصلي وقمت للصلاة استشعر أمر الله بقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة:43] ثم استشعر أنك تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "صَلوا كَمَا رَأَيتُموني أُصَلي"[161] ثم احتسب الأجر،لأن هذه الصلاة كفارة لما بينها وبين الصلاة الأخرى، وهلم جراً.

يفوتنا هذا كثيراً ولذلك تجدنا- نسأل الله أن يعاملنا بعفوه - لانصطبغ بآثار العبادة كما ينبغي وإلا فنحن نشهد بالله أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولكن مَنْ مِنَ الناس إذا صلى تغير فكره ونهته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! اللهم إلا قليل، لأن المعاني المقصودة مفقودة.

قوله: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو" أي كل الناس يخرج مبكراً في الغدوة في الصباح وهذا من باب ضرب المثل.

"فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" أي الغادي يبيع نفسه، ومعنى يبيع نفسه أنه يكلفها بالعمل، لأنه إذا كلفها بالعمل أتعب النفس فباعها.

ينقسم هؤلاء الباعة إلى قسمين: معتق و موبق،ولهذا قال:

"فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا" فيكون بيعه لنفسه إعتاقاً إذا قام بطاعة الله كما قال الله عزّ وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)(البقرة: الآية207) يشتري نفسه أي يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله عزّ وجل، فهذا الذي باع نفسه ابتغاء مرضاة الله وقام بطاعته قد أعتقها من العذاب والنار.

والذي أوبقها هو الذي لم يقم بطاعة الله عزّ وجل حيث أمضى عمره خسراناً، فهذا موبق لها أي مهلك لها.

لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة للقرآن إلى من يكون القرآن حجة له، ومن يكون حجة عليه ذكر أن العمل أيضاً قد يكون على الإنسان وقد يكون للإنسان، فيكون للإنسان إذا كان عملاً صالحاً، ويكون عليه إذا كان عملاً سيئاً.

وانظر إلى هذا الحديث: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ" يتبين لك أن الإنسان لابد أن يعمل إما خيراً وإما شراً.

من فوائد هذا الحديث:

.1الحث على الطهور الحسي والمعنوي، وجه ذلك أنه قال: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ"

.2أن الإيمان يتبعض، فبعضه فعل وبعضه ترك، وهو كذلك.

.3فضيلة حمد الله عزّ وجل حيث قال: إنها تملأ الميزان.

.4إثبات الميزان، والميزان جاء ذكره في القرآن عدة مرات، جاء ذكره مجموعاً وذكره مفرداً فقال الله عزّ وجلنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةوَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء:47] وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (القارعة:6) وجاء ذكره في السنة صريحاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلى اللِسانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبيبَتَانِ إلى الرَّحمَنِ: سُبحَانَ الله وَ بِحَمدِهِ سُبحَانَ الله العَظيم"[162] وكذلك في هذ الحديث.

وهذا الميزان هل هو حسي أو معنوي؟

قالت المعتزلة: إنه معنوي ، وهو كناية عن إقامة العدل.

والقول الصحيح: إنه حسي، له كفتان وله لسان،توزن به الأعمال الصالحة والسيئة.

وهنا يرد إشكال: كيف يوزن العمل وهو ليس بجسم، وكيف الحمد تملأ الميزان وهي ليست بجسم؟

والجواب عن كل هذا سهل، وهو: أن الله عزّ وجل قادر على أن يجعل الأعمال أجساماً والمعاني أجساماً، فإنه على كل شيء قدير عزّ وجل، ألم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان تظلان صاحبهما[163] ،وهما عمل، لكن الله على كل شيء قدير.

أليس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ويقال: يا أهل الجنة فيطلعون ويشرئبُّون، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، يقال: يا أهل النار، فيطلعون ويشرئبون، ويقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون:نعم، هذا الموت ، ثم يذبح بين الجنة والنار ويقال: ياأهل الجنة خلود ولا موت، ياأهل النار خلود ولا موت[164] ، والموت معنوي.

فالمهم أن نقول: إن الميزان يوم القيامة حسي، حقيقي، توزن به الأعمال، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فقد خسروا أنفسهم .

.5فضيلة الجمع بين سبحان الله والحمد لله لقوله "سُبحَانَ الله وَ الحَمدُ لِلهِ تَملآنِ مَا بَينَ السَمَاءِ وَ الأَرضِ" ووجه ذلك أن الجمع بينهما جمع بين نفي العيوب والنقائص وإثبات الكمالات.

ففي "سُبحَانَ الله" نفي العيوب والنقائص، وفي "الحَمدُ لِلهِ" إثبات الكمالات.

.6أن الصلاة نور ويتفرع على هذا:

الحث على كثرة الصلاة. ولكن يرد علينا أن كثيراً من المصلين وكثيراً من الصلوات من المصلي الواحد لا يشعر الإنسان بأنها نور، فما الجواب؟

الجواب أن نقول: إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا إشكال فيه، لكن عدم استنارة القلب لخلل في السبب أو وجود مانع.

فمن خلط صلاته برياء فهنا خلل في السبب، لأنه لم يخلص.

ومن صلى لكن قلبه يتجول يميناً وشمالاً فهنا مانع يمنع من كمال الصلاة فلا تحصل النتيجة، وقس على هذا كل شيء رتب الشرع عليه حكماً وتخلف فاعلم أن ذلك إما لوجود مانع، أو لاختلال سبب، وإلا فكلام الله عزّ وجل حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق.

.7الحث على الصدقة، لقوله: "الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ".

.8أن بذل المحبوب يدل على صدق الباذل، والمحبوب الذي يُبذَل في الصدقة هو المال.

.9الحث على الصبر وأنه ضياء وإن كان فيه شيء من الحرارة، لكنه ضياء ونور لقوله: "وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ".

.10أن حامل القرآن إما غانم وإما غارم، وليس هناك مرتبة لا له ولا عليه، إما للإنسان وإما على الإنسان، ويتفرع على هذه الفائدة:

أن يحاسب الإنسان نفسه هل عمل بالقرآن فيكون حجة له،أو لا، فيكون حجة عليه فليستعتب.

.11عظمة القرآن وأنه لن يضيع هكذا سدىً، بل إما للإنسان وإما على الإنسان.

.12بيان حال الناس وأن كل الناس يعملون من الصباح، وأنهم يبيعون أنفسهم، فمن باعها بعمل صالح فقد أعتقها، ومن باعها بعمل شيء فقد أوبقها.

.13أن الحرية حقيقة هي القيام بطاعة الله عزّ وجل، وليس إطلاق الإنسان نفسه ليعمل كل سيء أراده، قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:

هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان

فكل إنسان يفر من عبادة الله فإنه سيبقى في رق الشيطان .




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:27 PM   المشاركة رقم: 24
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْي رضي الله عنه عَن النبي صلى الله عليه وسلم فيمَا يَرْويه عَنْ رَبِِّهِ عزَّ وجل أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ، يَاعِبَادِيْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِيْ أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ فَتَضُرُّوْنِيْ وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ فَتَنْفَعُوْنِيْ، يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)[165] رواه مسلم.
الشرح
"قوله فيمَا يَرْويَهُ" الرواية نقل الحديث "عَنْ رَبِِّهِ" أي عن الله عزّ وجل، وهذا الحديث يسمى عند المحدثين قدسياً، والحديث القدسي: كل ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل.
لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله عزّ وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه، واللفظ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه،لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله،لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً و معنى؛لكان أعلى سنداً من القرآن؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك )(النحل: الآية102) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
الوجه الثاني:أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى،والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل،ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها:أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته،بمعنى أن الإنسان لايتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات،والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه،ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن،بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها:أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها:أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح،بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم .
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظاً، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالىيخلق صوتاً يعبّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي -: إن الأَولَى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطّع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.
نداءٌ من الله عزّ وجل أبلغنا به أصدق المخبرين وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "يَاعِبَادِي" يشمل كل من كان عابداً بالعبودية العامة والعبودية الخاصة.
"إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولاثناءً، إذ لايُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟
فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].
"وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي صيّرته بينكم محرماً.
"فَلا تَظَالَمُوا" هذا عطف معنوي على قوله: "جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي فبناء على كونه محرماً لاتظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضاً.
" يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ" أي تائه عن الطريق المستقيم "إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ" أي علمته ووفقته، و علمته هذه هداية الإرشاد و وفقته هداية التوفيق.
"فَاستَهدُونِي أَهدِكُمْ" أي اطلبوا مني الهداية لامن غيري أهدكم، وهذا جواب الأمر، وهذا كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]
"يَاعِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ" أي كلكم جائع إلا من أطعمه الله، وهذا يشمل ما إذا فقد الطعام، أو وجد ولكن لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه، فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أدرّ الضرع، وهو الذي أحيا الثمار، واقرأ من سورة الواقعة من قول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ*و َلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:58-74] ، تجد كيف تحدّى الله الخلق في هذه الآيات لابالنسبة للمأكول، ولا المشروب، ولا ما يصلح به المأكول والمشروب. فكلّنا جائع إلا من أطعمه الله.
كذلك أيضاً يمكن أن يوجد الطعام لكن قد لا يتمكن الإنسان منه:إما لكونه محبوساً، أو مصاباً بمرض، أو بعيداً عن المحل الخصب والرخاء.
"فَاسْتَطْعِمُونِي" أي اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه.
" أُطْعِمْكُمْ" أطعم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر.
"يَاعِبَادِي كُلُّكُم عَارٍ" فكلنا عار، لأننا خرجنا من بطون أمهاتناعراة.
"إِلاّ مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" سواء كان من فعل الإنسان كالكبير يشتري الثوب، أو من فعل غيره كالصغير يُشترى له الثوب، وربما يقال: إنه يشمل لباس الدين، فيشمل الكسوتين: كسوة الجسد الحسيّة، وكسوة الروح المعنوية.
"يَاعِبَادي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ" أي تجانبون الصواب، لأن الأعمال إما خطأ وإما صواب، فالخطأ مجانبة الصواب وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرّم.
وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في) كما هي في قول الله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ*وَبِاللَّيْل) [الصافات:137-138] أي وفي الليل.
"وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً" أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، ولكن تحتاج إلى الاستغفار.
"فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم" أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولوكانت مثل زبد البحر.
"يَاعِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّيْ فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عزّ وجل والعباد لايستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عزّ وجل.
" يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً" يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وذلك لأن ملكه عزّ وجل عام واسع لكل شيء، للتقيّ والفاجر.
ووجه قوله: "مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئَاً" أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل واحد كانوا من أولياء الله، وأولياء الله عزّ وجل جنوده، وجنوده يتسع بهم ملكه، كما لوكان للملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع بجنوده.
ثم قال: "يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئَاً" ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عزّ وجل فلا ينصر الله، ومع هذا لاينقص من ملكه شيئاً لأن الله تعالى غني عنه.
"يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ" أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة.
"مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحرَ" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئاً ولا تغيره، وهذاكقوله تعالى: ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)(الأعراف: الآية40)
إذ من المعلوم أن الجمل لايمكن أن يدخل في سم الخياط، فيكون هذا مبالغة في عدم دخولهم الجنة.
كذلك هنا من المعلوم أن المخيط لو أدخل في البحر لم ينقص شيئاً، فكذلك لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله عزّ وجل وأعطى كل إنسان مسألته مهما بلغت فإن ذلك لاينقص ما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ومن المعلوم أن المخيط إذا أدخل البحر لاينقص البحر شيئاً، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يَدُ اللهِ مَلأى سحَّاءَ" أي كثيرة العطاء "الَّليلَ والنَّهَارَ" أي في الليل والنهار "أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ" أي لم ينقص "مَا فِي يَمِيْنِهِ"[166] .
يَاعِبَادِيَ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ هذه جملة فيها حصر طريقه: (إنما) أي ما هي إلا أعمالكم أُحْصِيْهَا لَكُمْ أي أضبطها تماماً بالعدّ لازيادة ولانقصان، لأنهم كانوا في الجاهلية لايعرفون الحساب فيضبطون الأعداد بالحصى، وفي هذا يقول الشاعر:
ولستُ بالأكثر منهمْ حصى وإنّما العزّة للكاثرِ
يعني أن عددكم قليل، وإنما العزة للغالب في الكثرة.
"ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" أي في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.
قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى علىعمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى:20)
وقال عزّ وجل: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد)(الاسراء: الآية18) وقال عزّ وجل: ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
إذاً فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعاً، أو في الآخرة فقط.
" فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ" أي من وجد خيراً من أعماله فليحمد الله على الأمرين: علىتوفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.
"وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ" أي وجد شراً أو عقوبة "فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ" لأنه لم يُظلم، واللوم: أن يشعر الإنسان بقلبه بأن هذا فعل غير لائق وغير مناسب، وربما ينطق بذلك بلسانه.
من فوائد هذا الحديث:
.1-رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل،وهذا أعلى مراتب السند، لأن غاية السند: إما الرب عزّ وجل وهذا في الأحاديث القدسية، وإما النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في الأحاديث المرفوعة، وإما عن الصحابة وهذا في الأحاديث الموقوفة، وإما عن التابعين ومن بعدهم وهذا في الأحاديث المقطوعة.
فإذا روينا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسميه موقوفاً لأنه صحابي، وإذا روينا أثراً عن مجاهد - رحمه الله - فنسميه مقطوعاً لأنه تابعي.
.2إن أحسن ما يقال في الحديث القدسي: إنه ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، ونقتصر علىهذا ولانبحث هل هو من قول الله لفظاً ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا فيه نوع من التكلّف وقد نهينا عن التكلّف، ونهينا عن التنطّع وعن التعمّق.
.3إثبات القول لله عزّ وجل وهذا كثير في القرآن الكريم، وهو دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن كلام الله يكون بصوت، إذ لا يطلق القول إلا على المسموع.
فإن قال قائل:أليس الله تعالىيقول: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)(المجادلة: الآية8) وهذا قول يقولونه بقلوبهم؟
فالجواب: بلى، لكن هذا القول مقيد (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) وأما إذا أطلق القول فالمراد به مايُسمع.
.4أن الله تعالى قادر على الظلم لكنه حرّمه على نفسه لكمال عدله،وجه ذلك: أنه لو كان غير قادر عليه لم يثن على نفسه بتحريم الظلم لأنه غير قادر.
.5أن من صفات الله ماهو منفي مثل الظلم، ولكن اعلم أنه لايوجد في صفات الله عزّ وجل نفي إلا لثبوت ضده، فنفي الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لانقص فيه.
.6أن لله عزّ وجل أن يحرم على نفسه ما شاء لأن الحكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرم على الله لكن الله يحرم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب علىنفسه ما شاء. اقرأ قول الله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(الأنعام: الآية12)وكتب عزّ وجل عنده: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"[167] .
فلو سألنا سائل: هل يحرم على الله شيء، وهل يجب على الله شيء؟
فالجواب: أما إذا كان هو الذي أوجب على نفسه أو حرم فنعم، لأن له أن يحكم بما شاء. وأما أن نحرم بعقولنا على الله كذا وكذا، أو أن نوجب بعقولنا على الله كذا وكذا فلا، فالعقل لايوجب ولايحرم، وإنما التحريم والإيجاب إلى الله عزّ وجل.
قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ هو أوجبَ الأجرَ العظيم الشانِ
كلاَّ ولا عملٌ لديه ضائع ٌ إن كانَ بالإخلاصِ والإحسانِ
والإحسان يعني المتابعة.
.7إطلاق النفس على الذات لقوله: "عَلَى نَفْسِيْ" والمراد بنفسه ذاته عزّ وجل، كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)(آل عمران: الآية28) وليس النفس صفة كسائر الصفات: كالسمع والعلم والقدرة، فالنفس يعني الذات، فقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) يعني ذاته، وقوله هنا: "عَلَى نَفْسِي" يعني على ذاتي، وكلمة النفس أصوب من كلمة ذات لكن شاع بين الناس إطلاق الذات دون إطلاق النفس، ولكن الأصل العربي: النفس.
.8أن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: "وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" وهذا يشمل ظلم الإنسان نفسه وظلم غيره، لكن هو في المعنى الثاني أظهر لقوله: "فَلا تَظَالَمُوا" أي فلا يظلم بعضكم بعضاً، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس ويكون للغير، قال الله تعالى: (وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (هود: الآية101)
ومدار الظلم على النقص كما قال الله تعالى: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا ً) (الكهف:33)
ويدور على أمرين:
إما منع واجب للغير، وإما تحميله ما لايجب عليه.
مثال الأول: أن تمنع شخصاً من دين عليك فلا توفّيه، أو تماطل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ"[168] .
ومثال الثاني: كأن تدعي عليه ديناً وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم.
فإن قال قائل: هل يستثنى من قوله: "فَلا تَظَالَمُوا" شيء؟
الجواب: لا يستثنى.
فإن قال: أليس يجوز لنا أن نأخذ أموال الكفار المحاربين؟
فالجواب: بلى، لكن هذا ليس بظلم، لأنه أبيح لنا هذا.
فإن قال قائل: وهل يحل لنا أموال المعاهدين؟
فالجواب: لايحلّ لنا أموال المعاهدين ولا دماء المعاهدين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدَاً لَم يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّة"[169] نسأل الله العافية.
وبهذا نعرف عدوان وظلم وضلال أولئك المغرورين الذين يعتدون على أموال الكفار المعاهدين سواء كان الكافر عندك في بلدك وهو معاهد، أو أنت في بلده، فإننا نسمع من بعض الشباب الذين في بلاد الكفر من يقول: إنه لابأس أن نفسد أموال هؤلاء الكفار، فتجدهم يعتدون على أنوار الشوارع، ويعتدون على المتاجر، ويعتدون على السيارات وهذا حرام عليهم - سبحان الله - قوم احتضنوكم وأنتم في عهدهم وليسوا هم في عهدكم فتخونون، هذا أشد ما يكون تشويهاً للإسلام وقدحاً في الإسلام.
والقدح هنا والتشويه ليس للإسلام في الواقع لكن لهؤلاء الذين ينتسبون للإسلام، ولذلك يجب أن نعلم أن أموال المعاهدين محترمة سواء كانوا معاهدين عندك أو أنت عندهم، فلا يحل الاعتداء عليهم لأنه ظلم.
.9أن الإنسان ضال إلا من هدى الله، ويتفرع على هذه الفائدة:
أن تسأل الله الهداية دائماً حتى لا تضلّ.
فإن قال قائل: هنا إشكال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل مولود يولد على الفطرة[170]،وهنا يقول: كلكم ضال؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ" لكن قال: "أَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ" وهنا يخاطبُ عزّ وجل المكلّفين الذين قد تكون تغيرت فطرتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، فهم ضلاَّلٌ حتى يهديهم الله عزّ وجل.
.10الحثّ على طلب العلم، لقوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ" ولاشكّ" أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل قد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: العلم لايعدله شيء لمن صحت نيته لاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الجهل، وكثر فيه الظن وأفتى من لايستحق أن يفتي، فطلب العلم في هذا الزمان متأكد.
.11أن لاتطلب الهداية إلا من الله لقوله: "فَاستَهدُونِي أَهدِكُم".
ولكن الهداية نوعان: هداية التوفيق وهذه لاتطلب إلا من الله، إذ لايستطيع أحد أن يهديك هداية التوفيق إلا الله عزّ وجل. وهداية الدلالة: وهذه تصحّ أن تطلبها من غير الله ممن عنده علم بأن تقول: يافلان أفتني في كذا، أي اهدني إلى الحق فيه.
هل نقول إن قوله: "فَاستَهدُونِي" يدل على أن المراد هداية التوفيق، أو نقول إنه يشمل الهدايتين، وهداية الدلالة تكون باتباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سبباً للعلم؟
الجواب: الثاني، أي العموم.
.12أن العباد في الأصل جياع، لأنهم لايملكون أن يخلقوا ما تحيى به الأجساد كما في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة:63-71] فالأصل أن الإنسان قاصر جائع إلا من أطعمه الله، ويتفرع على هذه الفائدة قوله: "فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ" أي اسألوني الطعام أطعمكم، وعليه فلا تلجأ في طلب الرزق إلا من الله عزّ وجل.
.13وقوله: "اسْتَطْعِمُونِي" يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام،ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل كما قال تعالى في سورة الجمعة: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)
وقال تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15) وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا درهماً ولا خبزاً، بل لابد من السعي.
14-أن الأصل في الإنسان العري حتى يكسوه الله عزّ وجل،وسبق شرح أنه في الأصل العري الحسي، وقد يراد به المعنوي أيضاً، وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمه عارياً ولا يكسوه إلا الله عزّ وجل بما قدره من الأسباب .
15-كرم الله عزّ وجل حيث يعرض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه عزّ وجل حتى يزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة.
16-أن بني آدم خطاء،أي كثير الخطأ، كما قال الله عزّ وجل: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(الأحزاب: الآية72)
17-أنه مهما كثرت الذنوب والخطايا فإن الله تعالى يغفرها، لكن يحتاج أن يستغفر الإنسان، ولهذا قال: "فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ" وقد سبق في الشرح أن الاستغفار يكون على وجهين:
الوجه الأول:طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني:طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك كقوله: "مَنْ قَالَ:سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةَ غُفِرَت خَطَايَاه ُوَإِنْ كَانَت مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ"[171]
18-أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، وهذا لمن استغفر ، لقوله عزّ وجل "فَاسْتَغْفِرُونِيْ" أما من لم يستغفر فإن الصغائر تكون مكفرة بالأعمال الصالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلَواتِ الخَمسُ وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَان إِلى رَمَضَان مُكَفِِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ"[172] ، وأما الكبائر فلابد لها من توبة خاصة،فلا تكفرها الأعمال الصالحة،أما الكفر فلابد له من توبة بالإجماع.
فالذنوب على ثلاثة أقسام:
قسم لابد فيه من توبة بالإجماع وهو الكفر .
والثاني:ما تكفره الأعمال الصالحة وهو الصغائر .
والثالث:ما لابد له من توبة- على خلاف في ذلك- لكن الجمهور يقولون:إن الكبائر لابد لها من توبة.
19-كمال سلطان الله عزّ وجل وغناه عن خلقه، لقوله عزّ وجل: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ ... وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ وذلك لكمال سلطانه عزّ وجل وكمال غناه، فكأنه تعالى قال: إنما طلبت منكم الاستغفار من الذنوب لالحاجتي لذلك ولا لتضرري بمعاصيكم ولكن المصلحة لكم.
20-أن محل التقوى والفجور القلب، لقوله: "عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" "عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة إِذَا صَلُحَت صَلُحَ الجَسَد كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ"[173] ويتفرع على هذا: أنه يجب علينا أن نعتني بالقلب وننظر أين ذهب، وأين حلّ حتى نُطَهِّرهُ ونصفيه.
.21كمال غنى الله عزّ وجل وسعة غناه، لقوله:"يَا عِباديَ لَو أَنَّ أوَّلَكُم وَآَخِرَكُم وَ إِنسكُم وَ جِنكُم قَاموا في صَعيدٍ وَاحِدٍ..." فهذا يدل على سعة غنى الله عزّ وجل وسعة كرمه وجوده.
.22أنه يظهر أن اجتماع الناس في مكان واحد أقرب إلى الإجابة من تفرقهم، ولهذا أمِروا أن يجتمعوا في مسجد واحد في الجمعة، وأن يجتمعوا في مصلى العيد وفي الاستسقاء، وأن يجتمعوا في عرفات في مكان واحد، لأن ذلك أقرب إلى الإجابة.
.23جواز المبالغة بالقول ،لقوله: "إِلا كَمَا يَنقُصُ المِخيطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ" وهذا له نظير كما في قوله تعالى: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)(الأعراف: الآية40)
.24أن الله عزّ وجل يحصي أعمال العباد، أي يضبطها بالعدد فلا ينقص أحداً شيئاً، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7،8] وهذا على سبيل المبالغة،فلو عَمِلَ أدنى من مثقال الذرة لرآه، لكن لما كانت الذرة من أصغر المخلوقات مما تضرب به العرب المثل في الصغر قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)[الزلزلة:7].
.25أن الله عزّ وجل لا يظلم أحداً شيئاً، بل من عمل عملاً وجده، لقوله: "ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا".
.26وجوب الحمد لله عزّ وجل على من وجد خيراً، وذلك من وجهين:
الأول:أن الله عزّ وجل يسره حتى عمله.
الثاني:أن الله تعالى أثابه.
.27جواز تحدث الإنسان عن نفسه بصيغة الغائب، لقوله:"فَمَن وَجَدَ خَيرَاً فَليَحمد الله" دون أن يقال: فمن وجد خيراً فليحمدني، والعدول عن ضمير المتكلم إلى أن تكون الصيغة للغائب من باب التعظيم، كما يقول الملك مثلاً وهو يأمر: يقول لكم الملك افعلوا كذا وكذا، فهو أبلغ مما لو قال: أقول لكم افعلوا كذا وكذا.
.28أن من تخلف عن العمل الصالح ولم يجد الخير فاللوم على نفسه.
فإن قال قائل: كيف يكون اللوم على نفسي وأنا لم يقدر لي هذا؟
فالجواب: أنك حين فعلت المعصية أو تركت الواجب لم تكن تعلم أنه قُدِرَ لك هذا، فالعاصي يقدم على المعصية وهو لا يعلم أنها كتبت عليه إلا إذا عملها، وكذلك تارك الواجب لا يعلم أنه كتب عليه ترك الواجب إلا إذا تركه، وإلا فلا يعلم، فاللوم عليك، فالرسل بلغت والقرآن حجة ومع ذلك تركت هذا كله،فاللوم عليك أنت ، والله الموفق.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 06-08-2012, 04:27 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْي رضي الله عنه عَن النبي صلى الله عليه وسلم فيمَا يَرْويه عَنْ رَبِِّهِ عزَّ وجل أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ، يَاعِبَادِيْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِيْ أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ فَتَضُرُّوْنِيْ وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ فَتَنْفَعُوْنِيْ، يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)[165] رواه مسلم.
الشرح
"قوله فيمَا يَرْويَهُ" الرواية نقل الحديث "عَنْ رَبِِّهِ" أي عن الله عزّ وجل، وهذا الحديث يسمى عند المحدثين قدسياً، والحديث القدسي: كل ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل.
لأنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الله عزّ وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم معناه، واللفظ لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه،لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله،لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً و معنى؛لكان أعلى سنداً من القرآن؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام؛كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك )(النحل: الآية102) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
الوجه الثاني:أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى،والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل،ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:
منها:أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته،بمعنى أن الإنسان لايتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات،والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه،ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن،بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها:أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها:أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسّه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح،بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها:أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم .
وأجاب هؤلاء عن كون النبي صلى الله عليه وسلم أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظاً، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت، ولكن الله تعالىيخلق صوتاً يعبّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي -: إن الأَولَى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطّع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.
نداءٌ من الله عزّ وجل أبلغنا به أصدق المخبرين وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "يَاعِبَادِي" يشمل كل من كان عابداً بالعبودية العامة والعبودية الخاصة.
"إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولاثناءً، إذ لايُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟
فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].
"وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي صيّرته بينكم محرماً.
"فَلا تَظَالَمُوا" هذا عطف معنوي على قوله: "جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي فبناء على كونه محرماً لاتظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضاً.
" يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ" أي تائه عن الطريق المستقيم "إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ" أي علمته ووفقته، و علمته هذه هداية الإرشاد و وفقته هداية التوفيق.
"فَاستَهدُونِي أَهدِكُمْ" أي اطلبوا مني الهداية لامن غيري أهدكم، وهذا جواب الأمر، وهذا كقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) [غافر:60]
"يَاعِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ" أي كلكم جائع إلا من أطعمه الله، وهذا يشمل ما إذا فقد الطعام، أو وجد ولكن لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه، فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أدرّ الضرع، وهو الذي أحيا الثمار، واقرأ من سورة الواقعة من قول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ*نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ*عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ*و َلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ*أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ* نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة:58-74] ، تجد كيف تحدّى الله الخلق في هذه الآيات لابالنسبة للمأكول، ولا المشروب، ولا ما يصلح به المأكول والمشروب. فكلّنا جائع إلا من أطعمه الله.
كذلك أيضاً يمكن أن يوجد الطعام لكن قد لا يتمكن الإنسان منه:إما لكونه محبوساً، أو مصاباً بمرض، أو بعيداً عن المحل الخصب والرخاء.
"فَاسْتَطْعِمُونِي" أي اطلبوا مني الإطعام، وإذا طلبتم ذلك ستجدونه.
" أُطْعِمْكُمْ" أطعم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر.
"يَاعِبَادِي كُلُّكُم عَارٍ" فكلنا عار، لأننا خرجنا من بطون أمهاتناعراة.
"إِلاّ مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" سواء كان من فعل الإنسان كالكبير يشتري الثوب، أو من فعل غيره كالصغير يُشترى له الثوب، وربما يقال: إنه يشمل لباس الدين، فيشمل الكسوتين: كسوة الجسد الحسيّة، وكسوة الروح المعنوية.
"يَاعِبَادي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ" أي تجانبون الصواب، لأن الأعمال إما خطأ وإما صواب، فالخطأ مجانبة الصواب وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرّم.
وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في) كما هي في قول الله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ*وَبِاللَّيْل) [الصافات:137-138] أي وفي الليل.
"وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً" أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، ولكن تحتاج إلى الاستغفار.
"فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم" أي اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولوكانت مثل زبد البحر.
"يَاعِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّيْ فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عزّ وجل والعباد لايستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عزّ وجل.
" يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً" يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وذلك لأن ملكه عزّ وجل عام واسع لكل شيء، للتقيّ والفاجر.
ووجه قوله: "مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئَاً" أنهم إذا كانوا على أتقى قلب رجل واحد كانوا من أولياء الله، وأولياء الله عزّ وجل جنوده، وجنوده يتسع بهم ملكه، كما لوكان للملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع بجنوده.
ثم قال: "يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئَاً" ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عزّ وجل فلا ينصر الله، ومع هذا لاينقص من ملكه شيئاً لأن الله تعالى غني عنه.
"يَاعِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ" أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة.
"مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحرَ" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئاً ولا تغيره، وهذاكقوله تعالى: ( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)(الأعراف: الآية40)
إذ من المعلوم أن الجمل لايمكن أن يدخل في سم الخياط، فيكون هذا مبالغة في عدم دخولهم الجنة.
كذلك هنا من المعلوم أن المخيط لو أدخل في البحر لم ينقص شيئاً، فكذلك لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم سألوا الله عزّ وجل وأعطى كل إنسان مسألته مهما بلغت فإن ذلك لاينقص ما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ومن المعلوم أن المخيط إذا أدخل البحر لاينقص البحر شيئاً، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يَدُ اللهِ مَلأى سحَّاءَ" أي كثيرة العطاء "الَّليلَ والنَّهَارَ" أي في الليل والنهار "أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ" أي لم ينقص "مَا فِي يَمِيْنِهِ"[166] .
يَاعِبَادِيَ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ هذه جملة فيها حصر طريقه: (إنما) أي ما هي إلا أعمالكم أُحْصِيْهَا لَكُمْ أي أضبطها تماماً بالعدّ لازيادة ولانقصان، لأنهم كانوا في الجاهلية لايعرفون الحساب فيضبطون الأعداد بالحصى، وفي هذا يقول الشاعر:
ولستُ بالأكثر منهمْ حصى وإنّما العزّة للكاثرِ
يعني أن عددكم قليل، وإنما العزة للغالب في الكثرة.
"ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" أي في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.
قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى علىعمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى:20)
وقال عزّ وجل: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد)(الاسراء: الآية18) وقال عزّ وجل: ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19)
إذاً فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعاً، أو في الآخرة فقط.
" فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ" أي من وجد خيراً من أعماله فليحمد الله على الأمرين: علىتوفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.
"وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ" أي وجد شراً أو عقوبة "فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ" لأنه لم يُظلم، واللوم: أن يشعر الإنسان بقلبه بأن هذا فعل غير لائق وغير مناسب، وربما ينطق بذلك بلسانه.
من فوائد هذا الحديث:
.1-رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل،وهذا أعلى مراتب السند، لأن غاية السند: إما الرب عزّ وجل وهذا في الأحاديث القدسية، وإما النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في الأحاديث المرفوعة، وإما عن الصحابة وهذا في الأحاديث الموقوفة، وإما عن التابعين ومن بعدهم وهذا في الأحاديث المقطوعة.
فإذا روينا أثراً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسميه موقوفاً لأنه صحابي، وإذا روينا أثراً عن مجاهد - رحمه الله - فنسميه مقطوعاً لأنه تابعي.
.2إن أحسن ما يقال في الحديث القدسي: إنه ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عزّ وجل، ونقتصر علىهذا ولانبحث هل هو من قول الله لفظاً ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا فيه نوع من التكلّف وقد نهينا عن التكلّف، ونهينا عن التنطّع وعن التعمّق.
.3إثبات القول لله عزّ وجل وهذا كثير في القرآن الكريم، وهو دليل على ما ذهب إليه أهل السنة من أن كلام الله يكون بصوت، إذ لا يطلق القول إلا على المسموع.
فإن قال قائل:أليس الله تعالىيقول: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)(المجادلة: الآية8) وهذا قول يقولونه بقلوبهم؟
فالجواب: بلى، لكن هذا القول مقيد (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) وأما إذا أطلق القول فالمراد به مايُسمع.
.4أن الله تعالى قادر على الظلم لكنه حرّمه على نفسه لكمال عدله،وجه ذلك: أنه لو كان غير قادر عليه لم يثن على نفسه بتحريم الظلم لأنه غير قادر.
.5أن من صفات الله ماهو منفي مثل الظلم، ولكن اعلم أنه لايوجد في صفات الله عزّ وجل نفي إلا لثبوت ضده، فنفي الظلم يعني ثبوت العدل الكامل الذي لانقص فيه.
.6أن لله عزّ وجل أن يحرم على نفسه ما شاء لأن الحكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرم على الله لكن الله يحرم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب علىنفسه ما شاء. اقرأ قول الله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(الأنعام: الآية12)وكتب عزّ وجل عنده: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"[167] .
فلو سألنا سائل: هل يحرم على الله شيء، وهل يجب على الله شيء؟
فالجواب: أما إذا كان هو الذي أوجب على نفسه أو حرم فنعم، لأن له أن يحكم بما شاء. وأما أن نحرم بعقولنا على الله كذا وكذا، أو أن نوجب بعقولنا على الله كذا وكذا فلا، فالعقل لايوجب ولايحرم، وإنما التحريم والإيجاب إلى الله عزّ وجل.
قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ هو أوجبَ الأجرَ العظيم الشانِ
كلاَّ ولا عملٌ لديه ضائع ٌ إن كانَ بالإخلاصِ والإحسانِ
والإحسان يعني المتابعة.
.7إطلاق النفس على الذات لقوله: "عَلَى نَفْسِيْ" والمراد بنفسه ذاته عزّ وجل، كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)(آل عمران: الآية28) وليس النفس صفة كسائر الصفات: كالسمع والعلم والقدرة، فالنفس يعني الذات، فقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) يعني ذاته، وقوله هنا: "عَلَى نَفْسِي" يعني على ذاتي، وكلمة النفس أصوب من كلمة ذات لكن شاع بين الناس إطلاق الذات دون إطلاق النفس، ولكن الأصل العربي: النفس.
.8أن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: "وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" وهذا يشمل ظلم الإنسان نفسه وظلم غيره، لكن هو في المعنى الثاني أظهر لقوله: "فَلا تَظَالَمُوا" أي فلا يظلم بعضكم بعضاً، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس ويكون للغير، قال الله تعالى: (وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (هود: الآية101)
ومدار الظلم على النقص كما قال الله تعالى: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا ً) (الكهف:33)
ويدور على أمرين:
إما منع واجب للغير، وإما تحميله ما لايجب عليه.
مثال الأول: أن تمنع شخصاً من دين عليك فلا توفّيه، أو تماطل به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ"[168] .
ومثال الثاني: كأن تدعي عليه ديناً وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم.
فإن قال قائل: هل يستثنى من قوله: "فَلا تَظَالَمُوا" شيء؟
الجواب: لا يستثنى.
فإن قال: أليس يجوز لنا أن نأخذ أموال الكفار المحاربين؟
فالجواب: بلى، لكن هذا ليس بظلم، لأنه أبيح لنا هذا.
فإن قال قائل: وهل يحل لنا أموال المعاهدين؟
فالجواب: لايحلّ لنا أموال المعاهدين ولا دماء المعاهدين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدَاً لَم يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّة"[169] نسأل الله العافية.
وبهذا نعرف عدوان وظلم وضلال أولئك المغرورين الذين يعتدون على أموال الكفار المعاهدين سواء كان الكافر عندك في بلدك وهو معاهد، أو أنت في بلده، فإننا نسمع من بعض الشباب الذين في بلاد الكفر من يقول: إنه لابأس أن نفسد أموال هؤلاء الكفار، فتجدهم يعتدون على أنوار الشوارع، ويعتدون على المتاجر، ويعتدون على السيارات وهذا حرام عليهم - سبحان الله - قوم احتضنوكم وأنتم في عهدهم وليسوا هم في عهدكم فتخونون، هذا أشد ما يكون تشويهاً للإسلام وقدحاً في الإسلام.
والقدح هنا والتشويه ليس للإسلام في الواقع لكن لهؤلاء الذين ينتسبون للإسلام، ولذلك يجب أن نعلم أن أموال المعاهدين محترمة سواء كانوا معاهدين عندك أو أنت عندهم، فلا يحل الاعتداء عليهم لأنه ظلم.
.9أن الإنسان ضال إلا من هدى الله، ويتفرع على هذه الفائدة:
أن تسأل الله الهداية دائماً حتى لا تضلّ.
فإن قال قائل: هنا إشكال وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل مولود يولد على الفطرة[170]،وهنا يقول: كلكم ضال؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ" لكن قال: "أَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ" وهنا يخاطبُ عزّ وجل المكلّفين الذين قد تكون تغيرت فطرتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، فهم ضلاَّلٌ حتى يهديهم الله عزّ وجل.
.10الحثّ على طلب العلم، لقوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ" ولاشكّ" أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل قد قال الإمام أحمد - رحمه الله -: العلم لايعدله شيء لمن صحت نيته لاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الجهل، وكثر فيه الظن وأفتى من لايستحق أن يفتي، فطلب العلم في هذا الزمان متأكد.
.11أن لاتطلب الهداية إلا من الله لقوله: "فَاستَهدُونِي أَهدِكُم".
ولكن الهداية نوعان: هداية التوفيق وهذه لاتطلب إلا من الله، إذ لايستطيع أحد أن يهديك هداية التوفيق إلا الله عزّ وجل. وهداية الدلالة: وهذه تصحّ أن تطلبها من غير الله ممن عنده علم بأن تقول: يافلان أفتني في كذا، أي اهدني إلى الحق فيه.
هل نقول إن قوله: "فَاستَهدُونِي" يدل على أن المراد هداية التوفيق، أو نقول إنه يشمل الهدايتين، وهداية الدلالة تكون باتباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سبباً للعلم؟
الجواب: الثاني، أي العموم.
.12أن العباد في الأصل جياع، لأنهم لايملكون أن يخلقوا ما تحيى به الأجساد كما في سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ*بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ*أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة:63-71] فالأصل أن الإنسان قاصر جائع إلا من أطعمه الله، ويتفرع على هذه الفائدة قوله: "فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ" أي اسألوني الطعام أطعمكم، وعليه فلا تلجأ في طلب الرزق إلا من الله عزّ وجل.
.13وقوله: "اسْتَطْعِمُونِي" يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام،ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل كما قال تعالى في سورة الجمعة: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10)
وقال تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15) وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا درهماً ولا خبزاً، بل لابد من السعي.
14-أن الأصل في الإنسان العري حتى يكسوه الله عزّ وجل،وسبق شرح أنه في الأصل العري الحسي، وقد يراد به المعنوي أيضاً، وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمه عارياً ولا يكسوه إلا الله عزّ وجل بما قدره من الأسباب .
15-كرم الله عزّ وجل حيث يعرض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه عزّ وجل حتى يزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة.
16-أن بني آدم خطاء،أي كثير الخطأ، كما قال الله عزّ وجل: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(الأحزاب: الآية72)
17-أنه مهما كثرت الذنوب والخطايا فإن الله تعالى يغفرها، لكن يحتاج أن يستغفر الإنسان، ولهذا قال: "فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ" وقد سبق في الشرح أن الاستغفار يكون على وجهين:
الوجه الأول:طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني:طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك كقوله: "مَنْ قَالَ:سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةَ غُفِرَت خَطَايَاه ُوَإِنْ كَانَت مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ"[171]
18-أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، وهذا لمن استغفر ، لقوله عزّ وجل "فَاسْتَغْفِرُونِيْ" أما من لم يستغفر فإن الصغائر تكون مكفرة بالأعمال الصالحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلَواتِ الخَمسُ وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَان إِلى رَمَضَان مُكَفِِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ"[172] ، وأما الكبائر فلابد لها من توبة خاصة،فلا تكفرها الأعمال الصالحة،أما الكفر فلابد له من توبة بالإجماع.
فالذنوب على ثلاثة أقسام:
قسم لابد فيه من توبة بالإجماع وهو الكفر .
والثاني:ما تكفره الأعمال الصالحة وهو الصغائر .
والثالث:ما لابد له من توبة- على خلاف في ذلك- لكن الجمهور يقولون:إن الكبائر لابد لها من توبة.
19-كمال سلطان الله عزّ وجل وغناه عن خلقه، لقوله عزّ وجل: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ ... وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ وذلك لكمال سلطانه عزّ وجل وكمال غناه، فكأنه تعالى قال: إنما طلبت منكم الاستغفار من الذنوب لالحاجتي لذلك ولا لتضرري بمعاصيكم ولكن المصلحة لكم.
20-أن محل التقوى والفجور القلب، لقوله: "عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" "عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ" ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أَلاَ وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة إِذَا صَلُحَت صَلُحَ الجَسَد كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ"[173] ويتفرع على هذا: أنه يجب علينا أن نعتني بالقلب وننظر أين ذهب، وأين حلّ حتى نُطَهِّرهُ ونصفيه.
.21كمال غنى الله عزّ وجل وسعة غناه، لقوله:"يَا عِباديَ لَو أَنَّ أوَّلَكُم وَآَخِرَكُم وَ إِنسكُم وَ جِنكُم قَاموا في صَعيدٍ وَاحِدٍ..." فهذا يدل على سعة غنى الله عزّ وجل وسعة كرمه وجوده.
.22أنه يظهر أن اجتماع الناس في مكان واحد أقرب إلى الإجابة من تفرقهم، ولهذا أمِروا أن يجتمعوا في مسجد واحد في الجمعة، وأن يجتمعوا في مصلى العيد وفي الاستسقاء، وأن يجتمعوا في عرفات في مكان واحد، لأن ذلك أقرب إلى الإجابة.
.23جواز المبالغة بالقول ،لقوله: "إِلا كَمَا يَنقُصُ المِخيطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرَ" وهذا له نظير كما في قوله تعالى: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)(الأعراف: الآية40)
.24أن الله عزّ وجل يحصي أعمال العباد، أي يضبطها بالعدد فلا ينقص أحداً شيئاً، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة:7،8] وهذا على سبيل المبالغة،فلو عَمِلَ أدنى من مثقال الذرة لرآه، لكن لما كانت الذرة من أصغر المخلوقات مما تضرب به العرب المثل في الصغر قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)[الزلزلة:7].
.25أن الله عزّ وجل لا يظلم أحداً شيئاً، بل من عمل عملاً وجده، لقوله: "ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا".
.26وجوب الحمد لله عزّ وجل على من وجد خيراً، وذلك من وجهين:
الأول:أن الله عزّ وجل يسره حتى عمله.
الثاني:أن الله تعالى أثابه.
.27جواز تحدث الإنسان عن نفسه بصيغة الغائب، لقوله:"فَمَن وَجَدَ خَيرَاً فَليَحمد الله" دون أن يقال: فمن وجد خيراً فليحمدني، والعدول عن ضمير المتكلم إلى أن تكون الصيغة للغائب من باب التعظيم، كما يقول الملك مثلاً وهو يأمر: يقول لكم الملك افعلوا كذا وكذا، فهو أبلغ مما لو قال: أقول لكم افعلوا كذا وكذا.
.28أن من تخلف عن العمل الصالح ولم يجد الخير فاللوم على نفسه.
فإن قال قائل: كيف يكون اللوم على نفسي وأنا لم يقدر لي هذا؟
فالجواب: أنك حين فعلت المعصية أو تركت الواجب لم تكن تعلم أنه قُدِرَ لك هذا، فالعاصي يقدم على المعصية وهو لا يعلم أنها كتبت عليه إلا إذا عملها، وكذلك تارك الواجب لا يعلم أنه كتب عليه ترك الواجب إلا إذا تركه، وإلا فلا يعلم، فاللوم عليك، فالرسل بلغت والقرآن حجة ومع ذلك تركت هذا كله،فاللوم عليك أنت ، والله الموفق.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:28 PM   المشاركة رقم: 25
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَيضَاً أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَارَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ، يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة.وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمَيْدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيْلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)[174] رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الشرح

قوله: "أَنَ أُنَاسَاً" هؤلاء هم الفقراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ" أي الأموال الكثيرة "بِالأُجورِ" أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالاً يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور.
"يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم، وَيَتَصَدَّقونَ بِفُضولِ أَموَالِهم" يعني ولا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن نسبقهم أو نكون مثلهم، هذا مراد الصحابة رضي الله عنهم وليس مرادهم قطعاً الاعتراض على قدر الله عزّ وجل، ولا أن يحسدوا هؤلاء الأغنياء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ"
الجواب: بلى، ثم بيّنَ لهم فقال: "إِنَ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً" أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة.
"وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة.
"وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة .
" وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَة" إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة.
" وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ" إذا أمرت من رأيته مقصراً في شيء من الطاعات فهي صدقة.
" وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" إذا رأيت شخصاً على منكر ونهيته فهي صدقة .
هذه الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها صدقة يستطيعها هؤلاء الفقراء، فأنتم املئوا الزمن من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها صدقات .
والأغنياء يمكن أن لا يتصدقون كل يوم، وإذا تصدقوا باليوم لا يستوعبون اليوم بالصدقة ، فأنتم قادرون على هذا.
ولما قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اقتنعوا رضي الله عنهم لكن لما قال: "وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أي أن الرجل إذا أتى أهله فله بذلك صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ استفهاماً وليس اعتراضاً، لكن يريدون أن يعرفوا وجه ذلك، كيف يأتي الإنسان أهله وشهوته ويقال إنك مأجور؟! أي أن الإنسان قد يستبعد هذا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم وجه ذلك فقال: "أَرَأيتُم لو وَضَعَها في حَرَامٍ أَكَانَ عَليهِ وِزر؟" والجواب: نعم يكون عليه وزر لو وضعها في حرام.
قال صلى الله عليه وسلم "فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ" فاستغنى عن الحرام فكان مأجوراً بهذا، وهذا ما يسمى عند العلماء بقياس العكس، أي إذا ثبت هذا ثبت ضده في ضده.
من فوائد هذا الحديث:
.1مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح،لأن هؤلاء الذين جاؤوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ذهب أهل الدثور بالأجور لا يريدون الحسد، لكن يريدون أن يفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم باباً يدركون به هذا السبق.
.2أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون.
.3أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: "يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم" وهو كذلك، وقد يكون أداء الفقير أفضل وأكمل من أداء الغني.
.4أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبواباً من الخير، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ" وذكر الأبواب.
.5تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَدَّقونَ بِهِ" لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه.
.6أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، لكن هذه الصدقة منها واجب، ومنها غير واجب، ومنها متعدٍ،ومنها قاصر حسب ما سنذكره.
قال: ( إِنَّ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً ، وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَةً) هذا كله قاصر ومنه واجب، ومنه غير واجب.
فالتكبير منه واجب ومنه غير واجب، فتكبير الصلوات واجب،وتكبير أذكار الصلاة بعدها مستحب،وهكذا يقال في التسبيح والتهليل.
"وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجباً وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره،وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه، وتارة يكون مستحباً وذلك في الأمر بالمعروف المستحب، والنهي عن المنكر المكروه إن صح أن يطلق عليه اسم منكر.
والأمر بالمعروف لابد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الآمر عالماً بأن هذا معروف، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم، لأنه إذا أمر بما يجهل فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم.
الشرط الثاني:أن يعلم أن هذا المأمور قد ترك المعروف، فإن لم يعلم تركه إياه فليستفصل، ودليل ذلك أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: "أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما"[175] فلم يأمره بصلاة ركعتين حتى سأله هل فعلهما أولا، فلابد أن تعلم أنه تارك لهذا المعروف.
والنهي عن المنكر كذلك لابد فيه من شروط:
الشرط الأول:أن تعلم أن هذا منكر بالدليل الشرعي،لا بالذوق ولا بالعادة ولا بالغيرة ولا بالعاطفة، وليس مجرد أن ترى أنه منكر يكون منكراً، فقد ينكر الإنسان ما كان معروفاً .
الشرط الثاني: أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في المنكر، فإن لم تعلم فلا يجوز أن تنهى، لأنك لو فعلت لعد ذلك منك تسرعاً ولأكل الناس عرضك، بل لابد أن تعلم أن ما وقع فيه منكر، مثال ذلك:
رأيت رجلاً في البلد يأكل ويشرب في رمضان ولنقل في المسجد الحرام، فليس لك أن تنكر عليه حتى تسأله هل هو مسافر أم لا؟ لأنه قد يكون مسافراً والمسافر يجوز له أن يأكل ويشرب في رمضان، فلابد أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في هذا المنكر.
الشرط الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم، فإن زال المنكر إلى ما هو أعظم كان إنكاره حراماً، لأن إنكاره يعني أننا حولناه مما هو أخف إلى ما هو أشد.
وتحت هذه المسألة أربعة أقسام:
القسم الأول:أن يزول المنكر بالكلية .
القسم الثاني:أن يخف.
القسم الثالث:أن يتحول إلى منكر مثله.
القسم الرابع:أن يتحول إلى منكر أعظم.
فإذا كان إنكار المنكر يزول فلا شك أن الإنكار واجب.
وإذا كان يخف فالإنكار واجب، لأن تخفيف المنكر أمر واجب.
وإذا كان يتحول إلى ما هو مثله فمحل نظر، هل يُرجَّح الإنكار أو لا، فقد يرجح الإنكار لأن الإنسان إذا تغيرت به الأحوال وانتقل من شيء إلى شيء ربما يكون أخف، وقد يكون الأمر بالعكس بحيث يكون بقاؤه على ما هو عليه أحسن من نقله لأنه إذا تعود التنقل انتقل إلى منكرات أخرى.
وإذا كان يتحول إلى ما هو أعظم فالإنكار حرام.
فإذا قال قائل :علل أو دلل لهذه الأقسام؟
فنقول: أما إذا كان إنكاره يقتضي زواله فوجوبه ظاهر لقول الله تعالى: (وتعاونوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (المائدة: الآية2) وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(آل عمران: الآية104) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذي نَفسي بيَده لتَأمُرنَّ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَّ عَنِ المُنكَر وَلِتَأخُذنَّ عَلى يَدِ الظَالِمِ وَلِتَأطُرَنَّهُ عَلى الحقَِّّ أَطراً"[176] وذكر الحديث وعيداً شديداً.
أما إذا كان الإنكار يؤدي إلى تخفيفه فالتعليل أن تخفيف الشر واجب، وقد يقال: إن الأدلة السابقة دليل على هذا، لأن هذا الزائد منكر يزول بالإنكار فيكون داخلاً فيما سبق.
أما إذا كان يتحول إلى ما هو أنكر فإن الإنكار حرام، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )(الأنعام: الآية108) فنهى عن سب آلهة المشركين مع أنه أمر واجب، لأن سب آلهتهم يؤدي إلى سب من هو منزه عن كل نقص وهو الله عزّ وجل، فنحن إذا سببنا آلهتهم سببنا بحق، وهم إذا سبوا الله سبوه عدواً بغير حق.
ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه مر مع صاحب له على قوم من التتر يشربون الخمر ويفسقون، ولم ينههم شيخ الإسلام عن هذا فقال له صاحبه: لماذا لا تنهاهم؟ وكان - رحمه الله - ممن عرف بإنكار المنكر، فقال: لو نهيت هؤلاء لقاموا إلى بيوت الناس ونهبوها وانتهكوا أعراضهم، وهذا أعظم مما هم عليه الآن - فانظر للفقه في دين الله عزّ وجل-
"وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" هذه الصدقة قد تكون من الواجب تارة، ومن المستحب تارة.
إذا كان الإنسان يخاف على نفسه الزنى إن لم يأت أهله صار من الصدقة الواجبة، وإلا فهو من الصدقة المستحبة.
وظاهر قوله: "وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أن ذلك صدقة وإن كان على سبيل الشهوة لا علي سبيل الانكفاف عن الحرام، لأنه إذا كان على سبيل الانكفاف عن الحرام فالأمر واضح أنه صدقة ، لأنه يدفع الحرام بالمباح،لكن إذا كان لمجرد الشهوة فظاهر الحديث أن ذلك صدقة، وله وجه، ومن الوجوه:
الأول: أن الإنسان مأمور أن لا يمنع نفسه ما تشتهي إذا كان ذلك في غير معصية الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ لِنَفسِكَ عَليكَ حَقًّا"[177] .
والثاني:أنه إذا أتى أهله فقد أحسن إلى أهله، لأن المرأة عندها من الشهوة ما عند الرجل، فهي تشتهي الرجل كما يشتهيها، فإذا أتاها صار محسناً إليها وصار ذلك صدقة.
.7أن الصحابة رضي الله عنهم لا يتركون شيئاً مشكلاً إلا سألوا عنه، لقولهم
"أَيأتي أَحَدنَا شَهوَتَهُ وَيَكَون لَهُ فيهَا أَجر" .
وبه نعلم أن كل شيء لم يسأل عنه الصحابة مما يُظن أنه من أمور الدين فإن السؤال عنه بدعة، لأنه لو كان من دين الله لقيض الله من يسأل عنه حتى يتبين.
ومن ذلك: لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أن أول يوم من أيامه كسنة ، قالوا يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدةـ فقال "لاَ، اقدِروا لَهُ قَدرَهُ" فكل شيء يحتاج إليه الناس في دينهم فإما أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، وإما أن يُسأل عنه، ومالم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً ولا جواباً لسؤال وهو مما يتعلق بالدين فالسؤال عنه بدعة.
ومن ذلك ما يفعله بعض المتنطعين في أسماء الله وصفاته، أو بعض المتنطعين فيما جاء الخبر عنه من أحوال يوم القيامة، نقول لهؤلاء: إنكم مبتدعة، أو نقول على الأقل إن هذا بدعة، لأنه قد يكون السائل لا يريد أن يبتدع فنقول: هذا السؤال بدعة وإن كنا لا نصف السائل بأنه مبتدع.
فقد يكون العمل بدعة وفاعله ليس بمبتدع لأنه لا يعلم، أو لتأويل أو ما أشبه ذلك.
.8حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطب، وهذا من حسن التعليم أن تقرب الأمور الحسيّة بالأمور العقلية، وذلك في قوله: "أَرَأيتُمْ لَو وَضَعَهَا فِي الحَرامِ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ".
.9أن القياس حجة، فقياس الموافقة كثير جداً ولا إشكال فيه بأن تقيس هذا الشيء على هذا الشيء في حكم من الأحكام يجب هذا قياساً على هذا، ويحرم هذا قياساً على هذا.
لكن قياس العكس صحيح أيضاً،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا القياس قياس عكس، يعني فإذا كانت الشهوة الحرام وزراً فالشهوة الحلال أجر، وهذا واضح.
.10أن الاكتفاء بالحلال عن الحرام يجعل الحلال قربة وصدقة،لقوله: "وَفِي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" والله الموفق.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 06-08-2012, 04:28 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَيضَاً أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَارَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ، يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة.وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمَيْدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيْلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)[174] رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الشرح

قوله: "أَنَ أُنَاسَاً" هؤلاء هم الفقراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم "ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ" أي الأموال الكثيرة "بِالأُجورِ" أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالاً يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور.
"يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم، وَيَتَصَدَّقونَ بِفُضولِ أَموَالِهم" يعني ولا نتصدق لأنه ليس عندنا شيء، فكيف يمكن أن نسبقهم أو نكون مثلهم، هذا مراد الصحابة رضي الله عنهم وليس مرادهم قطعاً الاعتراض على قدر الله عزّ وجل، ولا أن يحسدوا هؤلاء الأغنياء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ"
الجواب: بلى، ثم بيّنَ لهم فقال: "إِنَ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً" أي إذا قلت: سبحان الله فهي صدقة.
"وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الله أكبر فهذه صدقة.
"وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً" إذا قلت الحمد لله فهذه صدقة .
" وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَة" إذا قلت لا إله إلا الله فهي صدقة.
" وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ" إذا أمرت من رأيته مقصراً في شيء من الطاعات فهي صدقة.
" وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" إذا رأيت شخصاً على منكر ونهيته فهي صدقة .
هذه الأشياء التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها صدقة يستطيعها هؤلاء الفقراء، فأنتم املئوا الزمن من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلها صدقات .
والأغنياء يمكن أن لا يتصدقون كل يوم، وإذا تصدقوا باليوم لا يستوعبون اليوم بالصدقة ، فأنتم قادرون على هذا.
ولما قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اقتنعوا رضي الله عنهم لكن لما قال: "وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أي أن الرجل إذا أتى أهله فله بذلك صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ استفهاماً وليس اعتراضاً، لكن يريدون أن يعرفوا وجه ذلك، كيف يأتي الإنسان أهله وشهوته ويقال إنك مأجور؟! أي أن الإنسان قد يستبعد هذا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم وجه ذلك فقال: "أَرَأيتُم لو وَضَعَها في حَرَامٍ أَكَانَ عَليهِ وِزر؟" والجواب: نعم يكون عليه وزر لو وضعها في حرام.
قال صلى الله عليه وسلم "فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ" فاستغنى عن الحرام فكان مأجوراً بهذا، وهذا ما يسمى عند العلماء بقياس العكس، أي إذا ثبت هذا ثبت ضده في ضده.
من فوائد هذا الحديث:
.1مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح،لأن هؤلاء الذين جاؤوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه ذهب أهل الدثور بالأجور لا يريدون الحسد، لكن يريدون أن يفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم باباً يدركون به هذا السبق.
.2أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون.
.3أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: "يُصَلونَ كَمَا نُصَلي،وَيَصومُونَ كَمَا نَصوم" وهو كذلك، وقد يكون أداء الفقير أفضل وأكمل من أداء الغني.
.4أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبواباً من الخير، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَّدَّقونَ بِهِ" وذكر الأبواب.
.5تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله: "أَوَلَيسَ قَد جَعَلَ اللهُ لَكُم مَا تَصَدَّقونَ بِهِ" لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه.
.6أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، لكن هذه الصدقة منها واجب، ومنها غير واجب، ومنها متعدٍ،ومنها قاصر حسب ما سنذكره.
قال: ( إِنَّ بِكُلِّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً ، وَبِكُلِّ تَحميدَةٍ صَدَقَةً، وَبِكُلِّ تَهليلَةٍ صَدَقَةً) هذا كله قاصر ومنه واجب، ومنه غير واجب.
فالتكبير منه واجب ومنه غير واجب، فتكبير الصلوات واجب،وتكبير أذكار الصلاة بعدها مستحب،وهكذا يقال في التسبيح والتهليل.
"وَأَمرٌ بِالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهيٌ عَن مُنكَرٍ صَدَقَةٌ" هذا من الواجب، لكن الأمر بالمعروف تارة يكون واجباً وجوب عين على من قدر عليه ولم يوجد غيره،وكذلك النهي عن المنكر، وتارة يكون واجب كفاية لمن قدر عليه ولكن هناك من يقوم مقامه، وتارة يكون مستحباً وذلك في الأمر بالمعروف المستحب، والنهي عن المنكر المكروه إن صح أن يطلق عليه اسم منكر.
والأمر بالمعروف لابد فيه من شرطين:
الشرط الأول: أن يكون الآمر عالماً بأن هذا معروف، فإن كان جاهلاً فإنه لا يجوز أن يتكلم، لأنه إذا أمر بما يجهل فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم.
الشرط الثاني:أن يعلم أن هذا المأمور قد ترك المعروف، فإن لم يعلم تركه إياه فليستفصل، ودليل ذلك أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: "أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين وتجوز فيهما"[175] فلم يأمره بصلاة ركعتين حتى سأله هل فعلهما أولا، فلابد أن تعلم أنه تارك لهذا المعروف.
والنهي عن المنكر كذلك لابد فيه من شروط:
الشرط الأول:أن تعلم أن هذا منكر بالدليل الشرعي،لا بالذوق ولا بالعادة ولا بالغيرة ولا بالعاطفة، وليس مجرد أن ترى أنه منكر يكون منكراً، فقد ينكر الإنسان ما كان معروفاً .
الشرط الثاني: أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في المنكر، فإن لم تعلم فلا يجوز أن تنهى، لأنك لو فعلت لعد ذلك منك تسرعاً ولأكل الناس عرضك، بل لابد أن تعلم أن ما وقع فيه منكر، مثال ذلك:
رأيت رجلاً في البلد يأكل ويشرب في رمضان ولنقل في المسجد الحرام، فليس لك أن تنكر عليه حتى تسأله هل هو مسافر أم لا؟ لأنه قد يكون مسافراً والمسافر يجوز له أن يأكل ويشرب في رمضان، فلابد أن تعلم أن هذا المخاطب قد وقع في هذا المنكر.
الشرط الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم، فإن زال المنكر إلى ما هو أعظم كان إنكاره حراماً، لأن إنكاره يعني أننا حولناه مما هو أخف إلى ما هو أشد.
وتحت هذه المسألة أربعة أقسام:
القسم الأول:أن يزول المنكر بالكلية .
القسم الثاني:أن يخف.
القسم الثالث:أن يتحول إلى منكر مثله.
القسم الرابع:أن يتحول إلى منكر أعظم.
فإذا كان إنكار المنكر يزول فلا شك أن الإنكار واجب.
وإذا كان يخف فالإنكار واجب، لأن تخفيف المنكر أمر واجب.
وإذا كان يتحول إلى ما هو مثله فمحل نظر، هل يُرجَّح الإنكار أو لا، فقد يرجح الإنكار لأن الإنسان إذا تغيرت به الأحوال وانتقل من شيء إلى شيء ربما يكون أخف، وقد يكون الأمر بالعكس بحيث يكون بقاؤه على ما هو عليه أحسن من نقله لأنه إذا تعود التنقل انتقل إلى منكرات أخرى.
وإذا كان يتحول إلى ما هو أعظم فالإنكار حرام.
فإذا قال قائل :علل أو دلل لهذه الأقسام؟
فنقول: أما إذا كان إنكاره يقتضي زواله فوجوبه ظاهر لقول الله تعالى: (وتعاونوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (المائدة: الآية2) وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(آل عمران: الآية104) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذي نَفسي بيَده لتَأمُرنَّ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَّ عَنِ المُنكَر وَلِتَأخُذنَّ عَلى يَدِ الظَالِمِ وَلِتَأطُرَنَّهُ عَلى الحقَِّّ أَطراً"[176] وذكر الحديث وعيداً شديداً.
أما إذا كان الإنكار يؤدي إلى تخفيفه فالتعليل أن تخفيف الشر واجب، وقد يقال: إن الأدلة السابقة دليل على هذا، لأن هذا الزائد منكر يزول بالإنكار فيكون داخلاً فيما سبق.
أما إذا كان يتحول إلى ما هو أنكر فإن الإنكار حرام، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )(الأنعام: الآية108) فنهى عن سب آلهة المشركين مع أنه أمر واجب، لأن سب آلهتهم يؤدي إلى سب من هو منزه عن كل نقص وهو الله عزّ وجل، فنحن إذا سببنا آلهتهم سببنا بحق، وهم إذا سبوا الله سبوه عدواً بغير حق.
ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنه مر مع صاحب له على قوم من التتر يشربون الخمر ويفسقون، ولم ينههم شيخ الإسلام عن هذا فقال له صاحبه: لماذا لا تنهاهم؟ وكان - رحمه الله - ممن عرف بإنكار المنكر، فقال: لو نهيت هؤلاء لقاموا إلى بيوت الناس ونهبوها وانتهكوا أعراضهم، وهذا أعظم مما هم عليه الآن - فانظر للفقه في دين الله عزّ وجل-
"وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" هذه الصدقة قد تكون من الواجب تارة، ومن المستحب تارة.
إذا كان الإنسان يخاف على نفسه الزنى إن لم يأت أهله صار من الصدقة الواجبة، وإلا فهو من الصدقة المستحبة.
وظاهر قوله: "وَفي بُضع أَحَدِكُم صَدَقَةٌ" أن ذلك صدقة وإن كان على سبيل الشهوة لا علي سبيل الانكفاف عن الحرام، لأنه إذا كان على سبيل الانكفاف عن الحرام فالأمر واضح أنه صدقة ، لأنه يدفع الحرام بالمباح،لكن إذا كان لمجرد الشهوة فظاهر الحديث أن ذلك صدقة، وله وجه، ومن الوجوه:
الأول: أن الإنسان مأمور أن لا يمنع نفسه ما تشتهي إذا كان ذلك في غير معصية الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ لِنَفسِكَ عَليكَ حَقًّا"[177] .
والثاني:أنه إذا أتى أهله فقد أحسن إلى أهله، لأن المرأة عندها من الشهوة ما عند الرجل، فهي تشتهي الرجل كما يشتهيها، فإذا أتاها صار محسناً إليها وصار ذلك صدقة.
.7أن الصحابة رضي الله عنهم لا يتركون شيئاً مشكلاً إلا سألوا عنه، لقولهم
"أَيأتي أَحَدنَا شَهوَتَهُ وَيَكَون لَهُ فيهَا أَجر" .
وبه نعلم أن كل شيء لم يسأل عنه الصحابة مما يُظن أنه من أمور الدين فإن السؤال عنه بدعة، لأنه لو كان من دين الله لقيض الله من يسأل عنه حتى يتبين.
ومن ذلك: لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال أن أول يوم من أيامه كسنة ، قالوا يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة واحدةـ فقال "لاَ، اقدِروا لَهُ قَدرَهُ" فكل شيء يحتاج إليه الناس في دينهم فإما أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، وإما أن يُسأل عنه، ومالم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً ولا جواباً لسؤال وهو مما يتعلق بالدين فالسؤال عنه بدعة.
ومن ذلك ما يفعله بعض المتنطعين في أسماء الله وصفاته، أو بعض المتنطعين فيما جاء الخبر عنه من أحوال يوم القيامة، نقول لهؤلاء: إنكم مبتدعة، أو نقول على الأقل إن هذا بدعة، لأنه قد يكون السائل لا يريد أن يبتدع فنقول: هذا السؤال بدعة وإن كنا لا نصف السائل بأنه مبتدع.
فقد يكون العمل بدعة وفاعله ليس بمبتدع لأنه لا يعلم، أو لتأويل أو ما أشبه ذلك.
.8حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطب، وهذا من حسن التعليم أن تقرب الأمور الحسيّة بالأمور العقلية، وذلك في قوله: "أَرَأيتُمْ لَو وَضَعَهَا فِي الحَرامِ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ".
.9أن القياس حجة، فقياس الموافقة كثير جداً ولا إشكال فيه بأن تقيس هذا الشيء على هذا الشيء في حكم من الأحكام يجب هذا قياساً على هذا، ويحرم هذا قياساً على هذا.
لكن قياس العكس صحيح أيضاً،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس هذا القياس قياس عكس، يعني فإذا كانت الشهوة الحرام وزراً فالشهوة الحلال أجر، وهذا واضح.
.10أن الاكتفاء بالحلال عن الحرام يجعل الحلال قربة وصدقة،لقوله: "وَفِي بُضْع أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" والله الموفق.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:29 PM   المشاركة رقم: 26
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث السادس والعشرون

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ"[178]رواه البخاري ومسلم. .
الشرح


السلامى هي المفاصل، وقيل:العظام، والمعنى واحد لايختلف، لأن كل عظم مفصول عن الآخر بفاصل فإنه يختلف عنه في الشكل، وفي القوة، وفي كل الأمور وهذا من تمام قدرة الله عزّ وجل فليس الذراع كالعضد، وليست الأصابع كالكف، فكل ما فصل عن غيره من العظام فله ميزة خاصة، ولذلك كان على كل سلامى صدقة.
وجاء في صحيح مسلم أن السلامى ثلاثمائة وستون مفصلاً، هكذاجاء في الحديث[179]، والطب الحديث يوافق هذا - سبحان الله - مما يدل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق.
وقوله: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ" (كل سلامى) مبتدأ، و(من الناس) بيان لـ: (كل) أو: لـ (سلامى)، (عليه صدقة) مبتدأ وخبر (كل) والمعنى: كل مفصل عليه صدقة.
وقوله: "كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمسُ" يعني كل يوم يصبح على كل عضو من أعضائنا صدقة، أي ثلاثمائة وستون في اليوم، فيكون في الأسبوع ألفين وخمسمائة وعشرين.
لكن من نعمة الله أن هذه الصدقة عامة في كل القربات، فكل القربات صدقات، وهذا شيء ليس بصعب على الإنسان، مادام كل قربة صدقة فما أيسر أن يؤدي الإنسان ما يجب عليه.
ثم قال: "تَعْدِلُ بَينَ اثنَيْنِ صَدَقَة" تعدل أي تفصل بينهما إما بصلح وإما بحكم، والأولى العدل بالصلح إذا أمكن ما لم يتبين للرجل أن الحكم لأحدهما، فإن تبين أن الحكم لأحدهما حرم الصلح، وهذا قد يفعله بعض القضاة، يحاول أن يصلح مع علمه أن الحق مع المدعي أو المدعى عليه، وهذا محرم لأنه بالإصلاح لابد أن يتنازل كل واحد عما ادعاه فيحال بينه وبين حقه.
إذاً العدل بين اثنين بالصلح أو بالحكم يكون صدقة، لكن إن علم أن الحق لأحدهما فلا يصلح، بل يحكم بالحق.
"وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ" أي بعيره مثلاً "تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا" إذا كان لايستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة "أَو تَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ" متاعه ما يتمتع به في السفر من طعام وشراب وغيرهما، تحمله على البعير وتربطه، هذا صدقة.
"وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" أي كلمة طيبة سواء طيبة في حق الله كالتسبيح والتكبير والتهليل، أو في حق الناس كحسن الخلق صدقة.
"وَبِكُلِّ خُطوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَة" سواء بعدت المسافة أم قصرت، وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لايخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة.
فيكتسب شيئين: رفع الدرجة، وحطّ الخطيئة.
وقد استحب بعض العلماء - رحمهم الله - أن يقارب الإنسان خطواته إذا ذهب إلى المسجد، ولكن هذا استحباب في غير موضعه، ولادليل عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة لم يقل: فليدن أحدكم خطواته، ولو كان هذا أمراً مقصوداً مشروعاً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم . ولكن لايباعد الخطا قصداً ولايدنيها قصداً، بل يمشي على عادته.
وهذا نظير قول بعضهم: يستحب لمن دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له انتظار الصلاة والاعتكاف، مثال ذلك:
حضر الإنسان إلى المسجد الجامع في الساعة الواحدة يوم الجمعة، قالوا: ينبغي أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له ثواب الاعتكاف وثواب انتظار الصلاة، وهذا في غير محلّه ولاصحة له. لأنه لو كان هذا أمراً محبوباً إلى الله ومشروعاً في الإسلام لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تكلم على ثواب من راح في الساعة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة،ثم الرابعة ، ثم الخامسة ولم يقل للناس:انووا الاعتكاف مدة لبثكم في المسجد.
فهذا مما يستحسنه بعض العلماء، ولكن لايتفطن أن استحباب شيء يتقرب به الإنسان إلى الله عزّ وجل بدون أصل يعتبر بدعة لا صحة له.
ثم إن الاعتكاف المشروع الذي يُطلب من الإنسان ويقال اعتكف هو الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فقط، فلا يقال للإنسان اعتكف في أي وقت إلا في هذه العشر.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يتحرى ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر. فاعتكف العشر الأواخر[180] ،ولم يعد إلى اعتكاف العشر الأول ولا الأوسط في العام القادم مع أنه قد فعله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً أثبته.
فدل هذا على أن الاعتكاف غير مشروع في غير العشر الأواخر من رمضان، ثم إن سبب الاعتكاف هو تحرّي ليلة القدر، وليلة القدر تكون في العشر الأواخر من رمضان.
فالعبادات محددة شرعاً، ولا تكون عبادة إلا إذا وافقت الشريعة في ستة أمور، وقد سبق ذكرها.
"وَتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ" أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن طريقهم فإنه صدقة.
من فوائد هذا الحديث:
.1وجوب الصدقة على كل إنسان كل يوم تطلع فيه الشمس عن كل عضو من أعضائه، لأن قوله: "عَلَيهِ صَدَقَة" وعلى للوجوب، ووجه ذلك: أن كل إنسان يصبح سليماً يجب عليه أن يشكر الله عزّ وجل، سليماً في كفه، في ذراعه، في عضده، في ساقه، في فخذه، في كل عضو من أعضائه عليه نعمة من الله عزّ وجل فليشكرها.
فإن قال قائل: قد يكون في إحصاء ذلك صعوبة؟
فالجواب: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجزئ من ذلك - أي بدلاً عنه، لأن (من) هنا بدليّة بمعنى بدل ذلك - ركعتان يركعهما من الضحى[181]، فإذا ركعت ركعتين من الضحى صار الباقي نفلاً وتطوعاً. ويؤخذ من هذه الرواية: أنه ينبغي للإنسان أن يداوم على ركعتي الضحى، وجه ذلك: أنها تأتي بدلاً عن هذه الصدقات أي بدلاً عن ثلاثمائة وستين صدقة، وهذا القول هو الراجح: أنه تسن المداومة على ركعتي الضحى.
ووقتها: من ارتفاع الشمس قيد رمح في رأي العين، إلى قبيل الزوال يعني بعد طلوع الشمس بنحو ثلث ساعة إلى قبيل الزوال بعشر أوخمس دقائق، وآخر الوقت أفضل.
وأقلها ركعتان وأكثرها لاحد له، فصلِّ ما شئت فأنت على خير.
.2أن الشمس هي التي تدور على الأرض، فيأتي النهار بدل الليل، لقوله: "تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ" وهذا واضح أن الحركة حركة الشمس، ويدل لهذا قول الله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال)(الكهف: الآية17) أربعة أفعال مضافة إلى الشمس، وقال تعالى عن سليمان: ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (صّ: 32)
أي الشمس (بِالْحِجَابِ) أي بالأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه حين غربت الشمس: أَتَدْرِيْ أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ[182] فأضاف الذهاب إليها أي إلى الشمس.
أفبعد هذا يمكن أن نقول: إن الأرض هي التي تدور، ويكون في دورانها اختلاف الليل والنهار؟ لايمكن إلا إذا ثبت عندنا ثبوتاً قطعياً نستطيع به أن نصرف ظاهر النصوص إلى معنى يطابق الواقع، فإذا ثبت فالقرآن والسنة لايخالف الواقع، ولكن كيف نتصرف مع هذه الأفعال التي ظاهرها أن الشمس هي التي تدور؟
نتصرف فنقول: تطلع في رأي العين، لأنك أنت مثلاً واقف في السطح أو في البر ترى الشمس تطلع وترتفع في رأي العين، نقول هذا: إذا ثبت قطعاً ثبوتاً حسيّاً أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض، وهذا إلى الآن لم نصل إليه، فيجب إبقاء النص على ما هوعليه.
فإذا قال قائل: كيف يتصور الإنسان أن الكبير يدور على الصغير، لأنك إذا نسبت الأرض إلى الشمس فليست بشيء، أي صغيرة.
نقول: إن الذي أدار الكبير على الصغير هو الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير، ولامانع.
فهذامانعتقده حول هذه المسألة، ومع ذلك لو قال قائل: هل الدلالة قطعية؟
فالجواب: الدلالةليست قطعية، بل ظنية، ونحن علينا أن نعمل بالدليل الظني الذي هو ظاهر النص حتى يُعارض بدليل قطعي، ولايجوز أن نقول: إن دلالة الآية والحديث على دوران الشمس على الأرض قطعية، لأنه ربما يأتي الوقت الذي نقطع بأن اختلاف الليل والنهار بدوران الأرض، وحينئذ نقول بالمحال،لأن تعارض الدليلين القطعيين محال، إذ تعارضهما يقتضي انتفاء أحدهما، ومادمنا نقول إنهما قطعيان فلا يمكن أن ينتفيا.
وإذا تقرر بالدليل القطعي أن الأرض هي التي تدور فقد يستدل لذلك مستدلّ بقوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ )(النحل: الآية15) تميد أي تضطرب، قالوا: وانتفاء الاضطراب يدل على وجود أصل الحركة، كما أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)(الأنعام: الآية103) يدل على ثبوت رؤية الله حيث نفى الأخص،ونفي الأخص يدل على ثبوت الأعم ولكن إلى الآن لم نصل إلى القطع بأن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض لا بدوران الشمس.
.3فضيلة العدل بين الاثنين، وقد حث الله عزّ وجل على الصلح فقال تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء: 128)
فالصلح خير، والعدل بين الخصمين في الحكم واجب.
.4الحث على معونة الرجل أخاه، لأن معونته إياه صدقة، سواء في المثال الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو في غيره.
المثال الذي ذكره هو: أن يعينه في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه، ولكنْ هناك أمثال كثيرة ومن ذلك:
لو وجدت إنساناً على الطريق وطلب منك أن تحمله إلى البلد وحملته، فإنه يدخل في هذا من باب أولى.
ولكن هل يجب عليك أن تحمله، أولا يجب؟
الجواب: إن كان في مهلكة وأمنت منه وجب عليك أن تحمله وجوباً لإنقاذه من الهلكة، والمهلكة إما لقلة الماشي فيها، أو لأن فيها قطاع طريق ربما يقضون على هذا الرجل.
فإن لم تأمن من هذا الرجل فلا يلزمك أن تحمله، مثل أن تخاف من أن يغتالك أو يحول مسيرك إلى اتجاه آخر بالقوة فلا يلزمك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"[183] .
إذاً معنى الحديث الحث على معونة إخوانك المسلمين حتى في غير المثال الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان أخوك أحوج إلى معونتك كانت المعونة أفضل، وكلما كانت المعونة أنفع لأخيك كانت أفضل.
وليس من هذا النوع أن تعين زميلك في وقت الاختبار على معرفة الجواب الصحيح، ويقال: هذا منكر وخيانة للأمانة، وأنت لو فعلت فقد أعنته على منكره فلايجوز.
.5الحث على الكلمة الطيبة لقوله: "وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" والله لا أطيب من كلام الله عزّ وجل القرآن،كل كلمة في القرآن فهي صدقة.
والكلمة الطيبة تكون طيبة في أسلوبها، وفي موضوعها، وفي إلقائها، وفي نواح أخرى، فإذا رأيت شخصاً وتكلمت معه بكلام طيب مثل: السلام عليكم، حياكم الله، صبحكم الله بالخير فهذه كلمة طيبة لكن بشرط أن لايكون ذلك مملاً بمعنى أن تبقى معه مدة وأنت تقول مثل هذا الكلام، لأنه إذا كان مملاً انقلب إلى غير طيب، ولكل مقام مقال.
المهم القاعدة: كل كلمة طيبة فهي صدقة.
.6أن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وبقياس العكس نقول: وضع الأذى في الطريق جريمة وأذية، ويتفرع على هذه الفائدة:
إذا كان إماطة الأذى عن الطريق الحسّي صدقة فإماطة الأذى عن الطريق المعنوي أبلغ وذلك ببيان البدع والمنكرات وغيرها، والمنكرات كسفاسف الأخلاق من الدعارة واللواط وشرب الخمر والدخان وغيرها، فبيان هذه الأشياء لئلا يمارسها الناس تعتبر صدقة وأعظم من إماطة الأذى عن الطريق الحسي.
ومن إماطة الأذى عن الطريق المعنوي قتل داعية الفساد، لكنه ليس إلينا بل إلى ولي الأمر.
.7أن كل ما يقرب إلى الله عزّ وجل من عبادة وإحسان إلى خلقه فإنه صدقة، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمثلة على ذلك. والله الموفق.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 06-08-2012, 04:29 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث السادس والعشرون

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ"[178]رواه البخاري ومسلم. .
الشرح


السلامى هي المفاصل، وقيل:العظام، والمعنى واحد لايختلف، لأن كل عظم مفصول عن الآخر بفاصل فإنه يختلف عنه في الشكل، وفي القوة، وفي كل الأمور وهذا من تمام قدرة الله عزّ وجل فليس الذراع كالعضد، وليست الأصابع كالكف، فكل ما فصل عن غيره من العظام فله ميزة خاصة، ولذلك كان على كل سلامى صدقة.
وجاء في صحيح مسلم أن السلامى ثلاثمائة وستون مفصلاً، هكذاجاء في الحديث[179]، والطب الحديث يوافق هذا - سبحان الله - مما يدل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق.
وقوله: "كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ" (كل سلامى) مبتدأ، و(من الناس) بيان لـ: (كل) أو: لـ (سلامى)، (عليه صدقة) مبتدأ وخبر (كل) والمعنى: كل مفصل عليه صدقة.
وقوله: "كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمسُ" يعني كل يوم يصبح على كل عضو من أعضائنا صدقة، أي ثلاثمائة وستون في اليوم، فيكون في الأسبوع ألفين وخمسمائة وعشرين.
لكن من نعمة الله أن هذه الصدقة عامة في كل القربات، فكل القربات صدقات، وهذا شيء ليس بصعب على الإنسان، مادام كل قربة صدقة فما أيسر أن يؤدي الإنسان ما يجب عليه.
ثم قال: "تَعْدِلُ بَينَ اثنَيْنِ صَدَقَة" تعدل أي تفصل بينهما إما بصلح وإما بحكم، والأولى العدل بالصلح إذا أمكن ما لم يتبين للرجل أن الحكم لأحدهما، فإن تبين أن الحكم لأحدهما حرم الصلح، وهذا قد يفعله بعض القضاة، يحاول أن يصلح مع علمه أن الحق مع المدعي أو المدعى عليه، وهذا محرم لأنه بالإصلاح لابد أن يتنازل كل واحد عما ادعاه فيحال بينه وبين حقه.
إذاً العدل بين اثنين بالصلح أو بالحكم يكون صدقة، لكن إن علم أن الحق لأحدهما فلا يصلح، بل يحكم بالحق.
"وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ" أي بعيره مثلاً "تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا" إذا كان لايستطيع أن يركب تحمله أنت وتضعه على الرحل هذا صدقة "أَو تَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ" متاعه ما يتمتع به في السفر من طعام وشراب وغيرهما، تحمله على البعير وتربطه، هذا صدقة.
"وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" أي كلمة طيبة سواء طيبة في حق الله كالتسبيح والتكبير والتهليل، أو في حق الناس كحسن الخلق صدقة.
"وَبِكُلِّ خُطوَةٍ تَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَة" سواء بعدت المسافة أم قصرت، وإذا كان قد تطهر في بيته وخرج إلى الصلاة لايخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة.
فيكتسب شيئين: رفع الدرجة، وحطّ الخطيئة.
وقد استحب بعض العلماء - رحمهم الله - أن يقارب الإنسان خطواته إذا ذهب إلى المسجد، ولكن هذا استحباب في غير موضعه، ولادليل عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أن بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة لم يقل: فليدن أحدكم خطواته، ولو كان هذا أمراً مقصوداً مشروعاً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم . ولكن لايباعد الخطا قصداً ولايدنيها قصداً، بل يمشي على عادته.
وهذا نظير قول بعضهم: يستحب لمن دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له انتظار الصلاة والاعتكاف، مثال ذلك:
حضر الإنسان إلى المسجد الجامع في الساعة الواحدة يوم الجمعة، قالوا: ينبغي أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ليحصل له ثواب الاعتكاف وثواب انتظار الصلاة، وهذا في غير محلّه ولاصحة له. لأنه لو كان هذا أمراً محبوباً إلى الله ومشروعاً في الإسلام لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد تكلم على ثواب من راح في الساعة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة،ثم الرابعة ، ثم الخامسة ولم يقل للناس:انووا الاعتكاف مدة لبثكم في المسجد.
فهذا مما يستحسنه بعض العلماء، ولكن لايتفطن أن استحباب شيء يتقرب به الإنسان إلى الله عزّ وجل بدون أصل يعتبر بدعة لا صحة له.
ثم إن الاعتكاف المشروع الذي يُطلب من الإنسان ويقال اعتكف هو الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فقط، فلا يقال للإنسان اعتكف في أي وقت إلا في هذه العشر.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يتحرى ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر. فاعتكف العشر الأواخر[180] ،ولم يعد إلى اعتكاف العشر الأول ولا الأوسط في العام القادم مع أنه قد فعله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً أثبته.
فدل هذا على أن الاعتكاف غير مشروع في غير العشر الأواخر من رمضان، ثم إن سبب الاعتكاف هو تحرّي ليلة القدر، وليلة القدر تكون في العشر الأواخر من رمضان.
فالعبادات محددة شرعاً، ولا تكون عبادة إلا إذا وافقت الشريعة في ستة أمور، وقد سبق ذكرها.
"وَتُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ" أي تزيل الأذى وهو ما يؤذي المارة من حجر أو زجاج أو قاذورات فأي شيء يؤذي المارين إذا أميط عن طريقهم فإنه صدقة.
من فوائد هذا الحديث:
.1وجوب الصدقة على كل إنسان كل يوم تطلع فيه الشمس عن كل عضو من أعضائه، لأن قوله: "عَلَيهِ صَدَقَة" وعلى للوجوب، ووجه ذلك: أن كل إنسان يصبح سليماً يجب عليه أن يشكر الله عزّ وجل، سليماً في كفه، في ذراعه، في عضده، في ساقه، في فخذه، في كل عضو من أعضائه عليه نعمة من الله عزّ وجل فليشكرها.
فإن قال قائل: قد يكون في إحصاء ذلك صعوبة؟
فالجواب: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجزئ من ذلك - أي بدلاً عنه، لأن (من) هنا بدليّة بمعنى بدل ذلك - ركعتان يركعهما من الضحى[181]، فإذا ركعت ركعتين من الضحى صار الباقي نفلاً وتطوعاً. ويؤخذ من هذه الرواية: أنه ينبغي للإنسان أن يداوم على ركعتي الضحى، وجه ذلك: أنها تأتي بدلاً عن هذه الصدقات أي بدلاً عن ثلاثمائة وستين صدقة، وهذا القول هو الراجح: أنه تسن المداومة على ركعتي الضحى.
ووقتها: من ارتفاع الشمس قيد رمح في رأي العين، إلى قبيل الزوال يعني بعد طلوع الشمس بنحو ثلث ساعة إلى قبيل الزوال بعشر أوخمس دقائق، وآخر الوقت أفضل.
وأقلها ركعتان وأكثرها لاحد له، فصلِّ ما شئت فأنت على خير.
.2أن الشمس هي التي تدور على الأرض، فيأتي النهار بدل الليل، لقوله: "تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ" وهذا واضح أن الحركة حركة الشمس، ويدل لهذا قول الله تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال)(الكهف: الآية17) أربعة أفعال مضافة إلى الشمس، وقال تعالى عن سليمان: ( فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) (صّ: 32)
أي الشمس (بِالْحِجَابِ) أي بالأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ رضي الله عنه حين غربت الشمس: أَتَدْرِيْ أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ[182] فأضاف الذهاب إليها أي إلى الشمس.
أفبعد هذا يمكن أن نقول: إن الأرض هي التي تدور، ويكون في دورانها اختلاف الليل والنهار؟ لايمكن إلا إذا ثبت عندنا ثبوتاً قطعياً نستطيع به أن نصرف ظاهر النصوص إلى معنى يطابق الواقع، فإذا ثبت فالقرآن والسنة لايخالف الواقع، ولكن كيف نتصرف مع هذه الأفعال التي ظاهرها أن الشمس هي التي تدور؟
نتصرف فنقول: تطلع في رأي العين، لأنك أنت مثلاً واقف في السطح أو في البر ترى الشمس تطلع وترتفع في رأي العين، نقول هذا: إذا ثبت قطعاً ثبوتاً حسيّاً أن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض، وهذا إلى الآن لم نصل إليه، فيجب إبقاء النص على ما هوعليه.
فإذا قال قائل: كيف يتصور الإنسان أن الكبير يدور على الصغير، لأنك إذا نسبت الأرض إلى الشمس فليست بشيء، أي صغيرة.
نقول: إن الذي أدار الكبير على الصغير هو الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير، ولامانع.
فهذامانعتقده حول هذه المسألة، ومع ذلك لو قال قائل: هل الدلالة قطعية؟
فالجواب: الدلالةليست قطعية، بل ظنية، ونحن علينا أن نعمل بالدليل الظني الذي هو ظاهر النص حتى يُعارض بدليل قطعي، ولايجوز أن نقول: إن دلالة الآية والحديث على دوران الشمس على الأرض قطعية، لأنه ربما يأتي الوقت الذي نقطع بأن اختلاف الليل والنهار بدوران الأرض، وحينئذ نقول بالمحال،لأن تعارض الدليلين القطعيين محال، إذ تعارضهما يقتضي انتفاء أحدهما، ومادمنا نقول إنهما قطعيان فلا يمكن أن ينتفيا.
وإذا تقرر بالدليل القطعي أن الأرض هي التي تدور فقد يستدل لذلك مستدلّ بقوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ )(النحل: الآية15) تميد أي تضطرب، قالوا: وانتفاء الاضطراب يدل على وجود أصل الحركة، كما أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)(الأنعام: الآية103) يدل على ثبوت رؤية الله حيث نفى الأخص،ونفي الأخص يدل على ثبوت الأعم ولكن إلى الآن لم نصل إلى القطع بأن اختلاف الليل والنهار يكون بدوران الأرض لا بدوران الشمس.
.3فضيلة العدل بين الاثنين، وقد حث الله عزّ وجل على الصلح فقال تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء: 128)
فالصلح خير، والعدل بين الخصمين في الحكم واجب.
.4الحث على معونة الرجل أخاه، لأن معونته إياه صدقة، سواء في المثال الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو في غيره.
المثال الذي ذكره هو: أن يعينه في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه، ولكنْ هناك أمثال كثيرة ومن ذلك:
لو وجدت إنساناً على الطريق وطلب منك أن تحمله إلى البلد وحملته، فإنه يدخل في هذا من باب أولى.
ولكن هل يجب عليك أن تحمله، أولا يجب؟
الجواب: إن كان في مهلكة وأمنت منه وجب عليك أن تحمله وجوباً لإنقاذه من الهلكة، والمهلكة إما لقلة الماشي فيها، أو لأن فيها قطاع طريق ربما يقضون على هذا الرجل.
فإن لم تأمن من هذا الرجل فلا يلزمك أن تحمله، مثل أن تخاف من أن يغتالك أو يحول مسيرك إلى اتجاه آخر بالقوة فلا يلزمك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"[183] .
إذاً معنى الحديث الحث على معونة إخوانك المسلمين حتى في غير المثال الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان أخوك أحوج إلى معونتك كانت المعونة أفضل، وكلما كانت المعونة أنفع لأخيك كانت أفضل.
وليس من هذا النوع أن تعين زميلك في وقت الاختبار على معرفة الجواب الصحيح، ويقال: هذا منكر وخيانة للأمانة، وأنت لو فعلت فقد أعنته على منكره فلايجوز.
.5الحث على الكلمة الطيبة لقوله: "وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ" والله لا أطيب من كلام الله عزّ وجل القرآن،كل كلمة في القرآن فهي صدقة.
والكلمة الطيبة تكون طيبة في أسلوبها، وفي موضوعها، وفي إلقائها، وفي نواح أخرى، فإذا رأيت شخصاً وتكلمت معه بكلام طيب مثل: السلام عليكم، حياكم الله، صبحكم الله بالخير فهذه كلمة طيبة لكن بشرط أن لايكون ذلك مملاً بمعنى أن تبقى معه مدة وأنت تقول مثل هذا الكلام، لأنه إذا كان مملاً انقلب إلى غير طيب، ولكل مقام مقال.
المهم القاعدة: كل كلمة طيبة فهي صدقة.
.6أن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وبقياس العكس نقول: وضع الأذى في الطريق جريمة وأذية، ويتفرع على هذه الفائدة:
إذا كان إماطة الأذى عن الطريق الحسّي صدقة فإماطة الأذى عن الطريق المعنوي أبلغ وذلك ببيان البدع والمنكرات وغيرها، والمنكرات كسفاسف الأخلاق من الدعارة واللواط وشرب الخمر والدخان وغيرها، فبيان هذه الأشياء لئلا يمارسها الناس تعتبر صدقة وأعظم من إماطة الأذى عن الطريق الحسي.
ومن إماطة الأذى عن الطريق المعنوي قتل داعية الفساد، لكنه ليس إلينا بل إلى ولي الأمر.
.7أن كل ما يقرب إلى الله عزّ وجل من عبادة وإحسان إلى خلقه فإنه صدقة، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمثلة على ذلك. والله الموفق.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:31 PM   المشاركة رقم: 27
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )) .رواه مسلم[184] .وعن وا بصة بن معبد رضى الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) قلت : نعم ؛ قال : (( استفت قلبك ؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن اليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك ))[185] .
قال الشيخ - رحمه الله - حديث حسن ، رويناه في مسندي الإمام أحمد بن حنبل ، و الدارمي بإسناد حسن .


الشرح
قوله ( البر) أي الذي ذكره الله تعالى في القرآن فقال ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة: الآية2) والبر كلمة تدل على كثرة الخير .
( حسن الخلق ) أي حسن الخلق مع الله ، وحسن الخلق مع عباد الله ، فأما حسن الخلق مع الله فان تتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم ، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا ، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح.
وأيضا حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية ، فالإنسان ليس دائما مسرورا حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه والذي قدر ذلك هو الله عز وجل فتكون حسن الخلق مع الله ، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه .
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه : بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى ، وطلاقة الوجه .
وهذا هو البر والمراد به البر المطلق ، وهناك بر خاص كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بالمال والبدن والجاه وسائر الإحسان .
وهل يدخل بر الوالدين في قوله ( حسن الخلق )؟
فالجواب : نعم يدخل لأن بر الوالدين لا شك أنه خلق حسن محمود كل أحد يحمد فاعله عليه .
(والإثم ) هو ضد البر لأن الله تعالى قال : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: الآية2) فما هو الإثم ؟
(الإثم ما حاك في نفسك ) أي تردد وصرت منه في قلق ((وكرهت أن يطلع عليه الناس)) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا ؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه ، وهذا ضابط وليس بقاعدة ، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن .
من فوائد الحديث :
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .
2. الحث على حسن الخلق وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر .
فإن قال قائل : وهل البر ينافي الغضب لله عز وجل ؟ يعني لو غضبت على إنسان وشددت عليه فهل ذلك ينافي البر وحسن الخلق ؟
الجواب : إن ذلك لا ينافي حسن الخلق ، بل هذا من حسن الخلق لأن المقصود به التربية والتوجيه ، فهو من حسن الخلق ؛ ولهذا كان النبي صلي الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه ؛ لكن إذا انتهكت محارم الله عز وجل كان أشد الناس فيها[186] .
3. إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم
بل يتردد فيه لقوله ((والإثم ما حاك في نفسك )) وهو يخاطب النواس بن سمعان وأمثاله وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه شيء هل هو إثم أو غير إثم أن يدع هذا حتى يتبين لقوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )[187] ولا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام[188] كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4. إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله ((وكرهت أن يطلع عليه الناس )) أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر ويفاخر بالمعصية كما يوجد في الفسقة الذين يذهبون
إلى بلاد كلها فجور وخمور ثم يأتي مفتخرا فيتحدث أنه فجر بكم إمرأة ، وأنه شرب كم كأسا من الخمر فتكون السئية عنده حسنة ، ويكون مستهترا بأحكام الله عز وجل ، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل . لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله عز وجل، يأتي يتبجح بما وصفه الله بأنه فاحشة كالزنى ويأتي يتبجح بشرب من لعن النبي صلي الله عليه وسلم شاربه فأين الدين وأين الإيمان .

وإذا عومل مثل هذا بما يستحق ارتدع كثير من الناس عن مثل هذه الأمور . والله المستعان .
عن وابصة الأسدي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا : إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : دعوني فأدنوا منه ، فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه قال : ( دعو وابصة، أدن يا وابصة ) مرتين أو ثلاثا قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال : ( يا وابصة أخبرك أو تسألني ؟) قلت : لا ، بل أخبرني فقال : (( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) فقال : نعم ؛ فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول : (( يا وابصة استفت قلبك ؛ واستفت نفسك ) ثلاث مرات ( البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))[189] .
قوله: ( جئت تسأل عن البر ) قلت: نعم هذه جملة خبرية في ظاهرها ولكنها استفهامية في معناها فمعنى ( جئت تسأل عن البر ) يعني أجئت تسال عن البر ؟
والجملة الخبرية تأتي بمعني الأستفهام كثيرا قال الله عز وجل : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (الأنبياء:21) فجمله (هُمْ يُنْشِرُونَ) جملة استفهامية حذفت منها همزة الإستفهام والتقدير : أهم ينشرون حتى يتخذوهم آلهة ولهذا ينبغي للقارئ ألا يصل قوله (هُمْ يُنْشِرُونَ) بقوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (الأنبياء:21) يقول: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ) (هُمْ يُنْشِرُونَ) حتى يتبين المعنى لأنك لو وصلت لظن السامع أنها صفة لـ: آلهة .
فإن قال قائل : كيف وقع في قلب النبي صلي الله عليه وسلم أن هذا الرجل جاء يسأل عن البر ؟
فالجواب : قضايا الأعيان لا يسأل عنها ، هذه قضية عين يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن وابصة رضي الله عنه يسأل عن البر ، فلما أتى إليه قال له: ( أجئت تسأل عن البر) ويحتمل أن هذا من فراسة النبي صلى الله عليه وسلم فالمهم: أن قضايا الأعيان يصعب جدا أن يدرك الإنسان أسبابها .
( قلت نعم قال : استفت قلبك ) أي اسأل والاستفتاء طلب الافتاء وهو بمعنى الخبر لأن الافتاء إخبار عن حكم شرعي فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم على قلبه .
( البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس) اطمأن يعني : استقر ومنه الحديث : ( اركع حتى تطمئن راكعا )[190] أي تستقر فما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس أيضا لا تحدثك نفسك بالخروج عنه فهذا هو البر ولكن لمن قلبه سليم ونيته صادقه . أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تجده إذا شرع في البر يضيق ذرعا ويسرع هربا حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه وتطمئن نفسه إلى البر .
( والإثم ما حاك في النفس ) أي تردد فيها (وتردد في الصدر ) يعني في القلب لأنه قال : ( البر ما اطمأنت إليه نفسك وأطمأن إليه القلب ) .
( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) هذا من باب التوكيد يعني حتى لو أفتاك وأفتاك وأفتاك فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك لم يطمئن ولم يستقر فلا تلتفت للفتوى .
من فوائد الحديث :
1. حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يتقدم للسائل بما في نفسه ليستريح ويطمئن لقوله ( جئت تسأل عن البر ؟) .
2. جواز حذف همزة الإستفهام إذا دل عليها الدليل ، لكن هذا ليس حكما شرعيا إنما هو حكم لغوي .
3. أن (نعم) جواب لإثبات ما سئل عنه فقول وابصة رضي الله عنه (نعم ) أي جئت أسأل عن البر ؛ ولهذا لو أجاب الإنسان بها من سأله عن شيء فمعناها إثبات ذلك الشيء .
4. جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه ؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية .
5. أن الصوفية وأشباههم استدلوا بهذا الحديث على أن الذوق دليل شرعي يرجع إليه لأنه قال : (استفت قلبك) فما وافق عليه القلب فهو بر.
فيقال : هذا لا يمكن لأن الله تعالى أنكر على من شرعوا دينا لم يأذن به الله، ولا يمكن أن يكون ما أنكره الله حقا أبدا .
ثم إن الخطاب هنا لرجل صحابي حريص على تطبيق الشريعة فمثل هذا يؤيده الله عز وجل ويهدي قلبه حتى لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله عز وجل
6. أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا ؛ فإن كثيراً
من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك ؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن يسأل عالما آخر ؟
الجواب : نعم بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول .
7. أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس لأن الناس
قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق فالمدار على الأدلة الشرعية والله الموفق .



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 06-08-2012, 04:31 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )) .رواه مسلم[184] .وعن وا بصة بن معبد رضى الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) قلت : نعم ؛ قال : (( استفت قلبك ؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن اليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك ))[185] .
قال الشيخ - رحمه الله - حديث حسن ، رويناه في مسندي الإمام أحمد بن حنبل ، و الدارمي بإسناد حسن .


الشرح
قوله ( البر) أي الذي ذكره الله تعالى في القرآن فقال ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة: الآية2) والبر كلمة تدل على كثرة الخير .
( حسن الخلق ) أي حسن الخلق مع الله ، وحسن الخلق مع عباد الله ، فأما حسن الخلق مع الله فان تتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم ، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا ، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح.
وأيضا حسن الخلق مع الله في أحكامه القدرية ، فالإنسان ليس دائما مسرورا حيث يأتيه ما يحزنه في ماله أو في أهله أو في نفسه أو في مجتمعه والذي قدر ذلك هو الله عز وجل فتكون حسن الخلق مع الله ، وتقوم بما أمرت به وتنزجر عما نهيت عنه .
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه : بذل الندى وكف الأذى والصبر على الأذى ، وطلاقة الوجه .
وهذا هو البر والمراد به البر المطلق ، وهناك بر خاص كبر الوالدين مثلا وهو الإحسان إليهما بالمال والبدن والجاه وسائر الإحسان .
وهل يدخل بر الوالدين في قوله ( حسن الخلق )؟
فالجواب : نعم يدخل لأن بر الوالدين لا شك أنه خلق حسن محمود كل أحد يحمد فاعله عليه .
(والإثم ) هو ضد البر لأن الله تعالى قال : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: الآية2) فما هو الإثم ؟
(الإثم ما حاك في نفسك ) أي تردد وصرت منه في قلق ((وكرهت أن يطلع عليه الناس)) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك مترددا فيه وتكره أن يطلع الناس عليك وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافيا سليما ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثما ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المتمردون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاما لكل أحد بل هو خاص لمن كان قلبه سليما طاهرا نقيا ؛ فإنه إذا هم بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده مترددا يكره أن يطلع الناس عليه ، وهذا ضابط وليس بقاعدة ، أي علامة على الإثم في قلب المؤمن .
من فوائد الحديث :
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ، يتكلم بالكلام اليسير وهو يحمل معاني كثيرة لقوله (البر حسن الخلق ) كلمة جامعة مانعة .
2. الحث على حسن الخلق وأنك متى أحسنت خلقك فإنك في بر .
فإن قال قائل : وهل البر ينافي الغضب لله عز وجل ؟ يعني لو غضبت على إنسان وشددت عليه فهل ذلك ينافي البر وحسن الخلق ؟
الجواب : إن ذلك لا ينافي حسن الخلق ، بل هذا من حسن الخلق لأن المقصود به التربية والتوجيه ، فهو من حسن الخلق ؛ ولهذا كان النبي صلي الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه ؛ لكن إذا انتهكت محارم الله عز وجل كان أشد الناس فيها[186] .
3. إن المؤمن الذي قلبه صافٍ سليم يحوك في نفسه الإثم وإن لم يعلم أنه إثم
بل يتردد فيه لقوله ((والإثم ما حاك في نفسك )) وهو يخاطب النواس بن سمعان وأمثاله وموقف الإنسان إذا حاك في نفسه شيء هل هو إثم أو غير إثم أن يدع هذا حتى يتبين لقوله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )[187] ولا تتجاسر فتقع في الشبهات ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام[188] كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4. إن الرجل المؤمن يكره أن يطلع الناس على آثامه لقوله ((وكرهت أن يطلع عليه الناس )) أما الرجل الفاجر المتمرد فلا يكره أن يطلع الناس على آثامه، بل من الناس من يفتخر ويفاخر بالمعصية كما يوجد في الفسقة الذين يذهبون
إلى بلاد كلها فجور وخمور ثم يأتي مفتخرا فيتحدث أنه فجر بكم إمرأة ، وأنه شرب كم كأسا من الخمر فتكون السئية عنده حسنة ، ويكون مستهترا بأحكام الله عز وجل ، ومثل هذا يستتاب فإن تاب وإلا قتل . لأن هذا من أعظم السخرية بدين الله عز وجل، يأتي يتبجح بما وصفه الله بأنه فاحشة كالزنى ويأتي يتبجح بشرب من لعن النبي صلي الله عليه وسلم شاربه فأين الدين وأين الإيمان .

وإذا عومل مثل هذا بما يستحق ارتدع كثير من الناس عن مثل هذه الأمور . والله المستعان .
عن وابصة الأسدي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه فجعلت أتخطاهم قالوا : إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : دعوني فأدنوا منه ، فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه قال : ( دعو وابصة، أدن يا وابصة ) مرتين أو ثلاثا قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال : ( يا وابصة أخبرك أو تسألني ؟) قلت : لا ، بل أخبرني فقال : (( جئت تسأل عن البر و الإثم ؟ )) فقال : نعم ؛ فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول : (( يا وابصة استفت قلبك ؛ واستفت نفسك ) ثلاث مرات ( البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))[189] .
قوله: ( جئت تسأل عن البر ) قلت: نعم هذه جملة خبرية في ظاهرها ولكنها استفهامية في معناها فمعنى ( جئت تسأل عن البر ) يعني أجئت تسال عن البر ؟
والجملة الخبرية تأتي بمعني الأستفهام كثيرا قال الله عز وجل : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (الأنبياء:21) فجمله (هُمْ يُنْشِرُونَ) جملة استفهامية حذفت منها همزة الإستفهام والتقدير : أهم ينشرون حتى يتخذوهم آلهة ولهذا ينبغي للقارئ ألا يصل قوله (هُمْ يُنْشِرُونَ) بقوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (الأنبياء:21) يقول: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ ) (هُمْ يُنْشِرُونَ) حتى يتبين المعنى لأنك لو وصلت لظن السامع أنها صفة لـ: آلهة .
فإن قال قائل : كيف وقع في قلب النبي صلي الله عليه وسلم أن هذا الرجل جاء يسأل عن البر ؟
فالجواب : قضايا الأعيان لا يسأل عنها ، هذه قضية عين يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن وابصة رضي الله عنه يسأل عن البر ، فلما أتى إليه قال له: ( أجئت تسأل عن البر) ويحتمل أن هذا من فراسة النبي صلى الله عليه وسلم فالمهم: أن قضايا الأعيان يصعب جدا أن يدرك الإنسان أسبابها .
( قلت نعم قال : استفت قلبك ) أي اسأل والاستفتاء طلب الافتاء وهو بمعنى الخبر لأن الافتاء إخبار عن حكم شرعي فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم على قلبه .
( البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس) اطمأن يعني : استقر ومنه الحديث : ( اركع حتى تطمئن راكعا )[190] أي تستقر فما استقر إليه القلب ورضي به وانشرح به واطمأنت إليه النفس أيضا لا تحدثك نفسك بالخروج عنه فهذا هو البر ولكن لمن قلبه سليم ونيته صادقه . أما من ليس كذلك فقلبه لا يطمئن للبر ولا تطمئن إليه نفسه ولهذا تجده إذا شرع في البر يضيق ذرعا ويسرع هربا حتى كأنه مطرود، لكن المؤمن يطمئن قلبه وتطمئن نفسه إلى البر .
( والإثم ما حاك في النفس ) أي تردد فيها (وتردد في الصدر ) يعني في القلب لأنه قال : ( البر ما اطمأنت إليه نفسك وأطمأن إليه القلب ) .
( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) هذا من باب التوكيد يعني حتى لو أفتاك وأفتاك وأفتاك فلا ترجع إلى فتواهم ما دام قلبك لم يطمئن ولم يستقر فلا تلتفت للفتوى .
من فوائد الحديث :
1. حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم حيث يتقدم للسائل بما في نفسه ليستريح ويطمئن لقوله ( جئت تسأل عن البر ؟) .
2. جواز حذف همزة الإستفهام إذا دل عليها الدليل ، لكن هذا ليس حكما شرعيا إنما هو حكم لغوي .
3. أن (نعم) جواب لإثبات ما سئل عنه فقول وابصة رضي الله عنه (نعم ) أي جئت أسأل عن البر ؛ ولهذا لو أجاب الإنسان بها من سأله عن شيء فمعناها إثبات ذلك الشيء .
4. جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه ؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية .
5. أن الصوفية وأشباههم استدلوا بهذا الحديث على أن الذوق دليل شرعي يرجع إليه لأنه قال : (استفت قلبك) فما وافق عليه القلب فهو بر.
فيقال : هذا لا يمكن لأن الله تعالى أنكر على من شرعوا دينا لم يأذن به الله، ولا يمكن أن يكون ما أنكره الله حقا أبدا .
ثم إن الخطاب هنا لرجل صحابي حريص على تطبيق الشريعة فمثل هذا يؤيده الله عز وجل ويهدي قلبه حتى لا يطمئن إلا إلى أمر محبوب إلى الله عز وجل
6. أن لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس لا سيما إذا وجد في نفسه ترددا ؛ فإن كثيراً
من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك ؛ فهل لهذا الذي تردد وشك أن يسأل عالما آخر ؟
الجواب : نعم بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول .
7. أن المدار في الشرعية على الأدلة لا على ما أشتهر بين الناس لأن الناس
قد يشتهر عندهم شيء ويفتون به وليس بحق فالمدار على الأدلة الشرعية والله الموفق .




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:32 PM   المشاركة رقم: 28
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثامن والعشرون
عَن أَبي نَجِيحٍ العربَاضِ بنِ سَاريَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا العُيون. فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوصِنَا، قَالَ: (أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافَاً كَثِيرَاً؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المّهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كلّ مُحدثةٍ بدعة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)[191] رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح.


الشرح


قوله:"وَعَظَنا" الوعظ:التذكير بما يلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيباً أو ترهيباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً.
وقوله: "وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )(الأنفال: الآية2) .
" وَذَرَفَت مِنهَا العُيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.
" فَقُلنَا يَا رَسُول الله:كَأنَّها" أي هذه الموعظة "مَوعِظَةَ مُوَدِِّعٍ" وذلك لتأثيرها في إلقائها،وفي موضوعها،وفي هيئة الواعظ لأن كل هذا مؤثر،حتى إننا في عصرنا الآن تسمع الخطيب فيلين قلبك وتخاف وتبكي، فإذا سمعته مسجلاً لم تتأثر، فتأثير المواعظ له أسباب منها: الموضوع،وحال الواعظ،وانفعاله.
" قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)(النساء: الآية131) فتقوى الله رأس كل شيء.
ومعنى التقوى: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه على علم وبصيرة.
ولهذا قال بعضهم في تفسيرها: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما حرم الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أ ر ض الشوك يحذر ما يرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
" وَالسَّمعُ والطَّاعَة" أي لولاة الأمر بدليل قوله وَإِن تَأمَّر عَليكُم والسمع والطاعة بأن تسمع إذا تكلم، وأن تطيع إذا أمر، وسيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد حكم هذه الجملة العظيمة،لكن انظر أن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالذكر بعد ذكر التقوى مع أن السمع والطاعة من تقوى الله لأهميتها ولعظم التمرد عليها.
" وَإن تَأمَّر عَلَيكُم" أي صار أميراً "عبد" أي مملوكاً.
"فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم" أي تطول به الحياة "فَسَيَرى" والسين هنا للتحقيق اختِلاَفاً كَثيراً في العقيدة، وفي العمل ، وفي المنهج، وهذا الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا طويلاً وجدوا من الاختلاف والفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان.
ثم أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال: "فَعَلَيكُم بِسَّنتي" أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها ، فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه ،ولا تخرجوا عن شريعته.
" وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين" الخلفاء الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الخليفة الأول لهذه الأمة، نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته نصاً يقرب من اليقين، وعامله بأمور تشير إلى أنه الخليفة بعده.
مثال ذلك: أتته امرأة في حاجة لها فوعدها وعداً، فقالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "ائتِي أَبَا بَكر"[192] وقال : "يَأَبَى اللهُ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنونَ إِلا أَبَا بَكرٍ"[193] وأمر أن تسد جميع الأبواب المشرَّعة على المسجد إلا باب أبي بكر[194]، وجعله خليفته في الصلاة بالمسلمين حين مرض[195] ،وهذه إمامة صغرى،يشير بذلك إلى أنه يتولى الإمامة الكبرى،وجعله أميراً على الحجيج في السنة التاسعة خلفاً عنه. فهو الخليفة بالنص الذي يقرب من اليقين.
ثم الخليفة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه أولى الناس بالخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنهما صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كثيراً ما يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر ،فرأى أبو بكر رضي الله عنه أن أحق الناس بالخلافة عمر رضي الله عنه.
وخلافة عمر رضي الله عنه ثابتة شرعاً لأنها وقعت من خليفة،ثم صارت الخلافة لعثمان رضي الله عنه بمشورة معروفة رتبها عمر رضي الله عنه، ثم صارت بعد ذلك لعلي رضي الله عنه هؤلاء هم الخلفاء الراشدون لا إشكال فيهم.
وقوله: "المهديين" صفة مؤكدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية،وعليه فالصفة هنا ليست صفة احتراز ولكنها صفة توكيد وبيان علة،يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون.
"عَضُّوا عَلَيهَا" أي على سنتي وسنة الخلفاء "بالنَّوَاجِذِ" وهي أقصى الأضراس ومن المعلوم أن السنة ليست جسماً يؤكل،لكن هذا كناية عن شدة التمسك بها،أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى أضراسه.
"وَإيَّاكُم" لما حث على التمسك بالسنة حذر من البدعة.
"وَإيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمور" أي اجتنبوها،والمراد بالأمور هنا الشؤون، والمراد بالشؤون شؤون الدين،لا المحدثات في أمور الدنيا،لأن المحدثات في أمور الدنيا منها ما هو نافع فهو خير،ومنها ما هو ضار فهو شر،لكن المحدثات في أمور الدين كلها شر، ولهذا قال: "فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة" لأنها ابتدعت وأنشئت من جديد.
"كُل بِدعَةٍ ضَلالَة" أي كل بدعة في دين الله عزّ وجل فهي ضلالة .
من فوائد هذا الحديث:
.1مشروعية الموعظة،ولكن ينبغي أن تكون في محلها،وأن لا يكثر فيُمِل، لأن الناس إذا ملوا ملوا الواعظ والموعظة، وتقاصرت هممهم عن الحضور،ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة،وكان بعض الصحابة يعظ أصحابه كل يوم خميس، يعني في الأسبوع مرة.
.2أنه ينبغي للواعظ أن تكون موعظته مؤثرة باختيار الألفاظ الجزلة المثيرة،وهذا على حسب الموضوع،فإن كان يريد أن يعظ الناس لمشاركة في جهاد أو نحوه فالموعظة تكون حماسية،وإن كان لعمل الآخرة فإن الموعظة تكون مرققة للقلوب.
.3أن المخاطب بالموعظة إذا كانت بليغة فسوف يتأثر لقوله: "وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ، وَ ذَرَفَت مِنهَا العُيونُ" .
.4أن القلب إذا خاف بكت العين، وإذا كان قاسياً، نسأل الله عزّ وجل أن يبعدنا وإياكم من قسوة القلب،لم تدمع العين.
.5أنه جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة،لأن المودع لن يبقى عند قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذَكر بها بعد ذلك لقولهم: "كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ موَدِِّعٍ" .
.6طلب الإنسان من العالم أن يوصيه،لقولهم رضي الله عنهم "فَأَوصِنَا".
ولكن هل هذا يكون بدون سبب،أو إذا وجد سبب لذلك؟
الظاهر الثاني:بمعنى أنه ليس كلما قابلت أحداً تقول:أوصني،فإن هذا مخالف لهدي الصحابة فيما يظهر،لكن إذا وجد سبب كإنسان قام وعظ وبيَّن فلك أن تقول أوصنا وأما بدون سبب فلا، ومن ذلك السفر، أي إذا أراد الإنسان أن يسافر وقال مثلاً للعالِم أوصني، فهذا مشروع.
.7أن أهم ما يوصى به العبد تقوى الله عزّ وجل لقوله: "أُوصيكُم بِتَقوَى الله".
.8فضيلة التقوى حيث كانت أهم وأولى وأول ما يوصى به العبد.
.9وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور،والسمع والطاعة لهم واجب بالكتاب والسنة،قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: الآية59) فجعل طاعة أولي الأمر في المرتبة الثالثة ولكنه لم يأت بالفعل (أطيعوا ) لأن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو أمر ولاة الأمور بمعصية الله عزّ وجل فلا سمع ولا طاعة.
وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ"[196] وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه.
أما لو أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، لأن رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة.
.10ثبوت إمرة العبد،لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم عَبدٌ" ولكن هل يلزم طاعة الأمير في كل شيء، أو فيما يتعلق بالحكم؟
الجواب:الثاني، أي فيما يتعلق بالحكم ورعاية الناس، فلو قال لك الأمير مثلاً: لا تأكل اليوم إلا وجبتين. أو ما أشبه ذلك فلم يجب عليك أن توافق إلا أنه يحرم عليك أن تنابذ، بمعنى أن تعصيه جهاراً لأن هذا يفسد الناس عليه.
.11وجوب طاعة الأمير وإن لم يكن السلطان، لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم" ومعلوم أن الأمة الإسلامية من قديم الزمان فيها خليفة وهو السلطان، وهناك أمراء للبلدان، وإذا وجبت طاعة الأمير فطاعة السلطان من باب أولى.
وهنا سؤال يكثر: إذا أمَّر الناس عليهم أميراً في السفر، فهل تلزمهم طاعته؟
فالجواب: نعم، تلزمهم طاعته،وإذا لم نقل بذلك لم يكن هناك فائدة من تأميره،لكن طاعته فيما يتعلق بأمور السفر لا في كل شيء،إلا أن الشيء الذي لا يتعلق بأمور السفر لا تجوز منابذته فيه، مثال ذلك:
لو قال أمير السفر:اليوم كل واحد منكم يلبس ثوبين لأنه سيكون الجو بارداً. فهنا لا تلزم طاعته، لكن لا تجوز منابذته بمعنى: لا يجوز لأحد أن يقول لن ألبس ثوبين، لأن مجرد منابذة ولاة الأمور تعتبر معصية.
.12ظهور آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيرَاً" فقد وقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: وهل يمكن أن نطبق هذه الجملة في كل زمان،بمعنى أن نقول: من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؟
فالجواب: لا نستطيع أن نطبقها في كل زمان،لكن الواقع أن من طال عمره رأى اختلافاً كثيراً.
كان الناس فيما سبق أمة واحدة، حزباً واحداً،ليس هناك تشتت ولا تفرق ثم اختلفوا،في بلادنا هذه كان الناس منقادين لأمرائهم،منقادين لعلمائهم حتى إن الرجل يأتي مع خصمه إلى القاضي وهو يرى أن الحق له فيحكم القاضي عليه،ثم يذهب مطمئن القلب مستريحاً،وإذا قيل له: يا فلان كيف غلبك خصمك؟ قال:الشرع يُخْلِفُ. والآن الأمر بالعكس،تجد الخصم إذا حُكِم عليه والحكم حق ذهب يماطل،ويطالب برفع المعاملة للتمييز،ومجلس القضاء الأعلى وإن كان يرى الحق عليه وليس له لكن يريد أن يضر بصاحبه،والاختلاف الآن وقع،أحص مثلاً أفكار الناس لا تكاد تحصيها، منهم من فكره إلحاد، ومنهم من فكره دون ذلك، ومنهم من فكره سيء في الأخلاق، ومنهم من دون ذلك.
.13وجوب التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، لقوله: "فَعَلَيكُم بِسنَّتي" والتمسك بها واجب في كل حال لكن يتأكد عند وجود الاختلاف.
.14أنه يجب على الإنسان أن يتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ،وجه ذلك: أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن.
.15أن للخلفاء سنة متبعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فما سنه الخلفاء الراشدون أُعتبر سنة للرسول صلى الله عليه وسلم بإقراره إياهم، ووجه كونه أقره أنه أوصى باتباع سنة الخلفاء الراشدين.
وبهذا نعرف سفه هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم متبعون للسنة وهم منكرون لها،ومن أمثلة ذلك:
قالوا:إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه ليس معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من سنة عثمان رضي الله عنه، فيقال لهم: وسنة عثمان رضي الله عنه هل هي هدر أو يؤخذ بها مالم تخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب:الثاني لا شك، عثمان رضي الله عنه لم يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في إحداث الأذان الأول، لأن السبب الذي من أجله أحدثه عثمان رضي الله عنه ليس موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت المدينة صغيرة،متقاربة، لا تحتاج إلى أذان أول، أما في عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت المدينة وكثر الناس وصار منهم شيء من التهاون فاحتيج إلى أذان آخر قبل الأذان الذي عند مجيء الإمام.
وهذا الذي فعله عثمان رضي الله عنه حق وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن له أصلاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه في رمضان كان يؤذن بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنه، بلال رضي الله عنه يؤذن قبل الفجر ،وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أذانه لا لصلاة الفجر ولكن ليوقظ النائم، ويرجع القائم للسحور[197]، فعثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول من أجل أن يقبل الناس البعيدون إلى المسجد ويتأهبوا فهو إذاً سنة من وجهين:
من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء ورأي عثمان رضي الله عنه خير من رأينا.
ومن جهة أخرى أن له أصلاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
.16أنه إذا كثرت الأحزاب في الأمة فلا تنتم إلى حزب، فقد ظهرت طوائف من قديم الزمان مثل الخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة،ثم ظهرت أخيراً إخوانيون وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك، فكل هذه الفرق اجعلها على اليسار وعليك بالأمام وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "عَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنََّة الخُلَفَاء الرَاشِدين"
ولا شك أن الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف لا الانتماء إلى حزب معين يسمى السلفيين، والواجب أن تكون الأمة الاسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب إلى من يسمى ( السلفيون) فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى (السلفيون) والمطلوب اتباع السلف،إلا أن الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق إلى الصواب ولكن مشكلتهم كغيرهم أن بعض هذه الفرق يضلل بعضاً ويبدعه ويفسقه، ونحن لا ننكر هذا إذا كانوا مستحقين، لكننا ننكر معالجة هذه البدع بهذه الطريقة ، والواجب أن يجتمع رؤساء هذه الفرق، ويقولون: بيننا كتاب الله عزّ وجل وسنة رسوله فلنتحاكم إليهما لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى فلان أو فلان، فكلٌّ يخطئ ويصيب مهما بلغ من العلم والعبادة ولكن العصمة في دين الإسلام.
فهذا الحديث أرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلوك طريق مستقيم يسلم فيه الإنسان، ولا ينتمي إلى أي فرقة إلا إلى طريق السلف الصالح سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين.
.17الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين تمسكاً تاماً، لقوله: "عضوا عَلَيهَا بالنَّوَاجِذِ".
.18التحذير من البدع، أي من محدثات الأمور، لأن (إيَّا) في قوله "وَإيَّاكم" معناها التحذير من محدثات الأمور لكن في الدين، أما في الدنيا إما مطلوب وإما مذموم حسب ما يؤدي إليه من النتائج.
فمثلاً: أساليب الحرب وأساليب الاتصالات،وأساليب المواصلات كلها محدثة، لم يوجد لها نوع فيما سبق، ولكن منها صالح ومنها فاسد حسب ما تؤدي إليه، فالمُحَذَّر منه المحدث في الدين عقيدة،أو قولاً،أو عملاً،فكل محدثة في الدين صغرت أو كبرت فإنها بدعة، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الكلية العامة الواضحة البينة: "كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعَةٌ" وبين قوله صلى الله عليه وسلم "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوم القِيامَةِ"[198]
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول:أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً" أي من ابتدأ العمل بالسنة، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بعد أن حث على الصدقة للقوم الذين وفدوا إلى المدينة ورغب فيها، فجاء الصحابة كلٌّ بما تيسر له، وجاء رجل من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ فَلَهُ أَجرَها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيامَةِ" أي ابتدأ العمل سنة ثابتة، وليس أنه يأتي هو بسنة جديدة، بل يبتدئ العمل لأنه إذا ابتدأ العمل سن الطريق للناس وتأسوا به وأخذوا بما فعل.
الوجه الثاني:أن يقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً" أي سن الوصول إلى شيء مشروع من قبل كجمع الصحابة المصاحف على مصحف واحد، فهذا سنة حسنة لاشك، لأن المقصود من ذلك منع التفرق بين المسلمين وتضليل بعضهم بعضاً.
كذلك أيضاً جمع السنة وتبويبها وترتيبها، فهذه سنة حسنة يتوصل بها إلى حفظ السنة.
إذاً يُحمَل قوله: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ" على الوسائل إلى أمور ثابتة شرعاً، ووجه هذا أننا نعلم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، ونعلم أنه لو فُتِحَ الباب لكل شخص أو لكل طائفة أن تبتدع في الدين ما ليس منه لتمزقت الأمة وتفرقت،وقد قال الله عزّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159)
.19أن جميع البدع ضلالة ليس فيها هدى، بل هي شر محض حتى وإن استحسنها من ابتدعها فإنها ليست حسنى،بل ولا حسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَة" ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
وبناءً على هذا يتبين خطأ من قسم البدع إلى خمسة أقسام أو إلى ثلاثة أقسام،وأنه ليس على صواب، لأننا نعلم علم اليقين أن أعلم الناس بشريعة الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أنصح الخلق لعباد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أفصح الخلق نطقاً محمد صلى الله عليه وسلم ،وأن أصدق الخلق خبراً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أربعة أوصاف كلها مجتمعة على الأكمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي مَنْ بعده ويقول: البدعة ليست ضلالة، بل هي أقسام: حسنة ،ومباحة،ومكروهة، ومحرمة،وواجبة.
سبحان الله العظيم،يعني لولا إحسان الظن بهؤلاء العلماء لكانت المسألة كبيرة، أن يقسموا ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ضلالة إلى أقسام: حسن و قبيح.
إذاً نقول: من ابتدع بدعة وقال: إنها حسنة. فإما أن لا تكون بدعة، وإما أن لا تكون حسنة قطعاً.
مثال ذلك: قالوا من البدع الحسنة جمع المصاحف في مصحف واحد، ومن البدع الحسنة كتابة الحديث، ومن البدع الحسنة إنشاء الدور لطلاب العلم وهكذا.
فنقول هذه ليست بدعة، وهي حسنة لا شك لكن ليست بدعة،هذه وسيلة إلى أمر مقصود شرعاً، نحن لم نبتدع عبادة من عندنا لكن أمرنا بشيء ورأينا أقرب طريق إليه هذا العمل فعملناه.
وهناك فرق بين الوسائل والذرائع وبين المقاصد، لأن جميع الأمثلة التي قالوا: إنها حسنة تنطبق على هذا، أي أنها وسائل إلى أمر مشروع مقصود.
ومثال آخر قول جماعة: إن الميكرفون الذي يؤدي الصوت إلى البعيد بدعة ولا يجوز العمل به؟
فنقول: هو وسيلة حسنة ، لأنه يوصل إلى المقصود، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم للأذان مَنْ هو أندى صوتاً[199] لأنه يبلغ أكثر، وقال للعباس رضي الله عنه في غزوة حنين: نادى يا عباس لأنه كان صيتاً رضي الله عنه[200] .
إذاً رفع الصوت مطلوب، وهذه وسيلة من وسائله، ولهذا لما رُكِّبَ الميكرفون (مكبّر الصوت) في المسجد - الجامع الكبير بعنيزة- أول ما ركب على زمن شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - خطب في ذلك خطبة وأثنى على الذي أتى به وهو أحد المحسنين- رحمه الله - وقال: هذا من النعمة. وصدق،وهو من النعمة لأنه وسيلة إلى أمر مقصود.
كذلك أيضاً الاتصالات، الآن نتصل عن طريق الهاتف إلى أقصى العالم، فهل نقول استعمال هذا الهاتف بدعة لا تجوز؟
الجواب:لا نقول هذا، لأنه وسيلة، وقد يكون إلى خير أو إلى شر.
فعلى كل حال: يجب أن نعرف الفرق بين ما كان غاية وما كان ذريعة.
يوجد أناس أحدثوا أذكاراً يذكرون الله فيها على هيئات معينة، وقالوا: إن قلوبنا ترتاح إلى هذا الشيء، فهل نقول: هذا بدعة حسنة أو لا؟
الجواب:لا، لأنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه،فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبد الله عزّ وجل على هذا الوجه، وعلى هذا فقس.
إذاً الواجب علينا أن نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا بان كل بدعة ضلالة، وأنه لا حسن في البدع تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: ما ادعى صاحبه أنه بدعة حسنة فهو إما أن لا يكون حسناً وظنه حسناً،وإما أن لا يكون بدعة، أما أن يكون بدعة وحسناً فهذا لايمكن، ويجب علينا أن نؤمن بهذا عقيدة.
ولا يمكن أن نجادل أهل الباطل في بدعهم إلا بهذا الطريق بأن نقول: كل بدعة ضلالة.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، وخرج ليلة من الليالي فوجد الناس يصلون بإمام واحد فقال: نعمت البدعة هذه[201] فسماها بدعة؟
أجاب بعض العلماء بأن المراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لاالشرعية، ولكن هذا الجواب لا يستقيم، كيف البدعة اللغوية وهي صلاة؟
والصواب أنها بدعة نسبية بالنسبة لهجران هذا القيام بإمام واحد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من سن القيام بإمام واحد - أعني التراويح - فقد صلى بأصحابه ثلاث ليال في رمضان ثم تخلف خشية أن تفرض[202]، وتُرِكَت، وأصبح الناس يأتون للمسجد يصلي الرجل وحده ، والرجلان جميعاً،والثلاثة أوزاعاً، فرأى عمر رضي الله عنه بثاقب سياسته أن يردهم إلى السنة الأولى وهي الاجتماع على إمام واحد فجمعهم على تميم الداري وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وأمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشرة ركعة[203] ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة[204].
فيكون قوله: نعمت البدعة يعني بالبدعة النسبية، أي بالنسبة إلى أنها هجرت في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،وإلا فنحن نؤمن بأن كل بدعة ضلالة، ثم هذه الضلالات تنقسم إلى: بدع مكفرة، وبدع مفسقة ، وبدع يعذر فيها صاحبها.
ولكن الذي يعذر صاحبها فيها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصد.
وأضرب مثلاً بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين وهما: النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى .
فالنووي : لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين )
وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح، ولكنه - رحمه الله - أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة لكن هو غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر.
أرأيتم الرجل الذي أضل راحلته حتى أيس منها، واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت،فإذا بالناقة على رأسه، فأخذ بها وقال من شدة الفرح:اللهم أنت عبدي وأنا ربك،وهذه الكلمة كلمة كفر لكن هو لم يكفر،قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَخطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَح" [205] أرأيتم الرجل يكره على الكفر قولاً أو فعلاً فهل يكفر؟
الجواب:لا، القول كفر والفعل كفر لكن هذا القائل أو الفاعل ليس بكافر لأنه مكره.
أرأيتم الرجل الذي كان مسرفاً على نفسه فقال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذرُّوني في اليمِّ - أي البحر - فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين[206]، ظن أنه بذلك ينجو من عذاب الله، وهذا شك في قدرة الله عزّ وجل، والشك في قدرة الله كفر، ولكن هذا الرجل لم يكفر.
جمعه الله عزّ وجل وسأله لماذا صنعت هذا؟ قال: مخافتك. وفي رواية أخرى: من خشيتك، فغفر الله له.
أما الحافظ الثاني:فهو ابن حجر- رحمه الله - وابن حجر حسب ما بلغ علمي متذبذب في الواقع، أحياناً يسلك مسلك السلف، وأحياناً يمشي على طريقة التأويل التي هي في نظرنا تحريف.
مثل هذين الرجلين هل يمكن أن نقدح فيهما؟
أبداً، لكننا لا نقبل خطأهما، خطؤهما شيء واجتهادهما شيء آخر.
أقول هذا لأنه نبتت نابتة قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجوماً عنيفاً، وتقول: يجب إحراق فتح الباري وإحراق شرح صحيح مسلم، -أعوذ بالله- كيف يجرؤ إنسان على هذا الكلام، لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين.
والبدعة المكفرة أو المفسقة لا نحكم على صاحبها أنه كافر أو فاسق حتى تقوم عليه الحجة، لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:59)
وقال عزّ وجل: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الاسراء: الآية15) ولو كان الإنسان يكفر ولو لم تقم عليه الحجة لكان يعذب، وقال عزّ وجل: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: الآية165) والآيات في هذه كثيرة.
فعلينا أن نتئد وأن لا نتسرع، وأن لا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه رجل مبتدع.
وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة، ونقول: هما من الأشاعرة؟
الجواب:لا، لأن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.
وما أحسن ما كتبه أخونا سفر الحوالي عما علم من مذهبهم، لأن أكثر الناس لا يفهم عنهم إلا أنهم مخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات، ولكن لهم خلافات كثيرة.
فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم فلا نقول: إنه أشعري.
أرأيتم لو أن إنساناً من الحنابلة اختار قولاً للشافعية فهل نقول إنه شافعي؟
الجواب:لا نقول إنه شافعي.
فانتبهوا لهذه المسائل الدقيقة، ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين، لأن غيبة العالم ليست قدحاً في شخصه فقط، بل في شخصه وما يحمله من الشريعة، لأنه إذا ساء ظن الناس فيه فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون المصيبة على الشريعة أكثر.
ثم إنكم ستجدون قوماً يسلكون هذا المسلك المشين فعليكم بنصحهم، وإذا وجد فيكم من لسانه منطلق في القول في العلماء فانصحوه وحذروه وقولوا له: اتق الله، أنت لم تُتَعَبَّد بهذا، وما الفائدة من أن تقول فلان فيه فلان فيه، بل قل: هذا القول فيه كذا وكذا بقطع النظر عن الأشخاص.
لكن قد يكون من الأفضل أن نذكر الشخص بما فيه لئلا يغتر الناس به، لكن لا على سبيل العموم هكذا في المجالس، لأنه ليس كل إنسان إذا ذكرت القول يفهم القائل، فذكر القائل جائز عند الضرورة، وإلا فالمهم إبطال القول الباطل، والله الموفق.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 06-08-2012, 04:32 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثامن والعشرون
عَن أَبي نَجِيحٍ العربَاضِ بنِ سَاريَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنا رَسُولُ اللهِ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا العُيون. فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوصِنَا، قَالَ: (أُوْصِيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافَاً كَثِيرَاً؛ فَعَلَيكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المّهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فإنَّ كلّ مُحدثةٍ بدعة، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)[191] رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح.


الشرح


قوله:"وَعَظَنا" الوعظ:التذكير بما يلين القلب سواء كانت الموعظة ترغيباً أو ترهيباً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً.
وقوله: "وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )(الأنفال: الآية2) .
" وَذَرَفَت مِنهَا العُيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء.
" فَقُلنَا يَا رَسُول الله:كَأنَّها" أي هذه الموعظة "مَوعِظَةَ مُوَدِِّعٍ" وذلك لتأثيرها في إلقائها،وفي موضوعها،وفي هيئة الواعظ لأن كل هذا مؤثر،حتى إننا في عصرنا الآن تسمع الخطيب فيلين قلبك وتخاف وتبكي، فإذا سمعته مسجلاً لم تتأثر، فتأثير المواعظ له أسباب منها: الموضوع،وحال الواعظ،وانفعاله.
" قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)(النساء: الآية131) فتقوى الله رأس كل شيء.
ومعنى التقوى: طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه على علم وبصيرة.
ولهذا قال بعضهم في تفسيرها: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما حرم الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقال بعضهم:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أ ر ض الشوك يحذر ما يرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
" وَالسَّمعُ والطَّاعَة" أي لولاة الأمر بدليل قوله وَإِن تَأمَّر عَليكُم والسمع والطاعة بأن تسمع إذا تكلم، وأن تطيع إذا أمر، وسيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد حكم هذه الجملة العظيمة،لكن انظر أن النبي صلى الله عليه وسلم خصها بالذكر بعد ذكر التقوى مع أن السمع والطاعة من تقوى الله لأهميتها ولعظم التمرد عليها.
" وَإن تَأمَّر عَلَيكُم" أي صار أميراً "عبد" أي مملوكاً.
"فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم" أي تطول به الحياة "فَسَيَرى" والسين هنا للتحقيق اختِلاَفاً كَثيراً في العقيدة، وفي العمل ، وفي المنهج، وهذا الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا طويلاً وجدوا من الاختلاف والفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان.
ثم أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف، فقال: "فَعَلَيكُم بِسَّنتي" أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الطريقة التي هو عليها ، فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه ،ولا تخرجوا عن شريعته.
" وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين" الخلفاء الذين يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الخليفة الأول لهذه الأمة، نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته نصاً يقرب من اليقين، وعامله بأمور تشير إلى أنه الخليفة بعده.
مثال ذلك: أتته امرأة في حاجة لها فوعدها وعداً، فقالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "ائتِي أَبَا بَكر"[192] وقال : "يَأَبَى اللهُ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنونَ إِلا أَبَا بَكرٍ"[193] وأمر أن تسد جميع الأبواب المشرَّعة على المسجد إلا باب أبي بكر[194]، وجعله خليفته في الصلاة بالمسلمين حين مرض[195] ،وهذه إمامة صغرى،يشير بذلك إلى أنه يتولى الإمامة الكبرى،وجعله أميراً على الحجيج في السنة التاسعة خلفاً عنه. فهو الخليفة بالنص الذي يقرب من اليقين.
ثم الخليفة من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه أولى الناس بالخلافة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنهما صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كثيراً ما يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر ،فرأى أبو بكر رضي الله عنه أن أحق الناس بالخلافة عمر رضي الله عنه.
وخلافة عمر رضي الله عنه ثابتة شرعاً لأنها وقعت من خليفة،ثم صارت الخلافة لعثمان رضي الله عنه بمشورة معروفة رتبها عمر رضي الله عنه، ثم صارت بعد ذلك لعلي رضي الله عنه هؤلاء هم الخلفاء الراشدون لا إشكال فيهم.
وقوله: "المهديين" صفة مؤكدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية،وعليه فالصفة هنا ليست صفة احتراز ولكنها صفة توكيد وبيان علة،يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون.
"عَضُّوا عَلَيهَا" أي على سنتي وسنة الخلفاء "بالنَّوَاجِذِ" وهي أقصى الأضراس ومن المعلوم أن السنة ليست جسماً يؤكل،لكن هذا كناية عن شدة التمسك بها،أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى أضراسه.
"وَإيَّاكُم" لما حث على التمسك بالسنة حذر من البدعة.
"وَإيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمور" أي اجتنبوها،والمراد بالأمور هنا الشؤون، والمراد بالشؤون شؤون الدين،لا المحدثات في أمور الدنيا،لأن المحدثات في أمور الدنيا منها ما هو نافع فهو خير،ومنها ما هو ضار فهو شر،لكن المحدثات في أمور الدين كلها شر، ولهذا قال: "فَإِنَّ كُلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة" لأنها ابتدعت وأنشئت من جديد.
"كُل بِدعَةٍ ضَلالَة" أي كل بدعة في دين الله عزّ وجل فهي ضلالة .
من فوائد هذا الحديث:
.1مشروعية الموعظة،ولكن ينبغي أن تكون في محلها،وأن لا يكثر فيُمِل، لأن الناس إذا ملوا ملوا الواعظ والموعظة، وتقاصرت هممهم عن الحضور،ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة،وكان بعض الصحابة يعظ أصحابه كل يوم خميس، يعني في الأسبوع مرة.
.2أنه ينبغي للواعظ أن تكون موعظته مؤثرة باختيار الألفاظ الجزلة المثيرة،وهذا على حسب الموضوع،فإن كان يريد أن يعظ الناس لمشاركة في جهاد أو نحوه فالموعظة تكون حماسية،وإن كان لعمل الآخرة فإن الموعظة تكون مرققة للقلوب.
.3أن المخاطب بالموعظة إذا كانت بليغة فسوف يتأثر لقوله: "وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ، وَ ذَرَفَت مِنهَا العُيونُ" .
.4أن القلب إذا خاف بكت العين، وإذا كان قاسياً، نسأل الله عزّ وجل أن يبعدنا وإياكم من قسوة القلب،لم تدمع العين.
.5أنه جرت العادة أن موعظة المودع تكون بليغة مؤثرة،لأن المودع لن يبقى عند قومه حتى يكرر عليهم الموعظة فيأتي بموعظة مؤثرة يُذَكر بها بعد ذلك لقولهم: "كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ موَدِِّعٍ" .
.6طلب الإنسان من العالم أن يوصيه،لقولهم رضي الله عنهم "فَأَوصِنَا".
ولكن هل هذا يكون بدون سبب،أو إذا وجد سبب لذلك؟
الظاهر الثاني:بمعنى أنه ليس كلما قابلت أحداً تقول:أوصني،فإن هذا مخالف لهدي الصحابة فيما يظهر،لكن إذا وجد سبب كإنسان قام وعظ وبيَّن فلك أن تقول أوصنا وأما بدون سبب فلا، ومن ذلك السفر، أي إذا أراد الإنسان أن يسافر وقال مثلاً للعالِم أوصني، فهذا مشروع.
.7أن أهم ما يوصى به العبد تقوى الله عزّ وجل لقوله: "أُوصيكُم بِتَقوَى الله".
.8فضيلة التقوى حيث كانت أهم وأولى وأول ما يوصى به العبد.
.9وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لولاة الأمور،والسمع والطاعة لهم واجب بالكتاب والسنة،قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: الآية59) فجعل طاعة أولي الأمر في المرتبة الثالثة ولكنه لم يأت بالفعل (أطيعوا ) لأن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لو أمر ولاة الأمور بمعصية الله عزّ وجل فلا سمع ولا طاعة.
وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ"[196] وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، فهذا حرام، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه.
أما لو أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، لأن رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة.
.10ثبوت إمرة العبد،لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم عَبدٌ" ولكن هل يلزم طاعة الأمير في كل شيء، أو فيما يتعلق بالحكم؟
الجواب:الثاني، أي فيما يتعلق بالحكم ورعاية الناس، فلو قال لك الأمير مثلاً: لا تأكل اليوم إلا وجبتين. أو ما أشبه ذلك فلم يجب عليك أن توافق إلا أنه يحرم عليك أن تنابذ، بمعنى أن تعصيه جهاراً لأن هذا يفسد الناس عليه.
.11وجوب طاعة الأمير وإن لم يكن السلطان، لقوله: "وَإِن تَأَمرَ عَلَيكُم" ومعلوم أن الأمة الإسلامية من قديم الزمان فيها خليفة وهو السلطان، وهناك أمراء للبلدان، وإذا وجبت طاعة الأمير فطاعة السلطان من باب أولى.
وهنا سؤال يكثر: إذا أمَّر الناس عليهم أميراً في السفر، فهل تلزمهم طاعته؟
فالجواب: نعم، تلزمهم طاعته،وإذا لم نقل بذلك لم يكن هناك فائدة من تأميره،لكن طاعته فيما يتعلق بأمور السفر لا في كل شيء،إلا أن الشيء الذي لا يتعلق بأمور السفر لا تجوز منابذته فيه، مثال ذلك:
لو قال أمير السفر:اليوم كل واحد منكم يلبس ثوبين لأنه سيكون الجو بارداً. فهنا لا تلزم طاعته، لكن لا تجوز منابذته بمعنى: لا يجوز لأحد أن يقول لن ألبس ثوبين، لأن مجرد منابذة ولاة الأمور تعتبر معصية.
.12ظهور آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيرَاً" فقد وقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: وهل يمكن أن نطبق هذه الجملة في كل زمان،بمعنى أن نقول: من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؟
فالجواب: لا نستطيع أن نطبقها في كل زمان،لكن الواقع أن من طال عمره رأى اختلافاً كثيراً.
كان الناس فيما سبق أمة واحدة، حزباً واحداً،ليس هناك تشتت ولا تفرق ثم اختلفوا،في بلادنا هذه كان الناس منقادين لأمرائهم،منقادين لعلمائهم حتى إن الرجل يأتي مع خصمه إلى القاضي وهو يرى أن الحق له فيحكم القاضي عليه،ثم يذهب مطمئن القلب مستريحاً،وإذا قيل له: يا فلان كيف غلبك خصمك؟ قال:الشرع يُخْلِفُ. والآن الأمر بالعكس،تجد الخصم إذا حُكِم عليه والحكم حق ذهب يماطل،ويطالب برفع المعاملة للتمييز،ومجلس القضاء الأعلى وإن كان يرى الحق عليه وليس له لكن يريد أن يضر بصاحبه،والاختلاف الآن وقع،أحص مثلاً أفكار الناس لا تكاد تحصيها، منهم من فكره إلحاد، ومنهم من فكره دون ذلك، ومنهم من فكره سيء في الأخلاق، ومنهم من دون ذلك.
.13وجوب التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، لقوله: "فَعَلَيكُم بِسنَّتي" والتمسك بها واجب في كل حال لكن يتأكد عند وجود الاختلاف.
.14أنه يجب على الإنسان أن يتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ،وجه ذلك: أنه لا يمكن لزومها إلا بعد علمها وإلا فلا يمكن.
.15أن للخلفاء سنة متبعة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فما سنه الخلفاء الراشدون أُعتبر سنة للرسول صلى الله عليه وسلم بإقراره إياهم، ووجه كونه أقره أنه أوصى باتباع سنة الخلفاء الراشدين.
وبهذا نعرف سفه هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم متبعون للسنة وهم منكرون لها،ومن أمثلة ذلك:
قالوا:إن الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، لأنه ليس معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من سنة عثمان رضي الله عنه، فيقال لهم: وسنة عثمان رضي الله عنه هل هي هدر أو يؤخذ بها مالم تخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب:الثاني لا شك، عثمان رضي الله عنه لم يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في إحداث الأذان الأول، لأن السبب الذي من أجله أحدثه عثمان رضي الله عنه ليس موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت المدينة صغيرة،متقاربة، لا تحتاج إلى أذان أول، أما في عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت المدينة وكثر الناس وصار منهم شيء من التهاون فاحتيج إلى أذان آخر قبل الأذان الذي عند مجيء الإمام.
وهذا الذي فعله عثمان رضي الله عنه حق وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن له أصلاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه في رمضان كان يؤذن بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنه، بلال رضي الله عنه يؤذن قبل الفجر ،وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أذانه لا لصلاة الفجر ولكن ليوقظ النائم، ويرجع القائم للسحور[197]، فعثمان رضي الله عنه زاد الأذان الأول من أجل أن يقبل الناس البعيدون إلى المسجد ويتأهبوا فهو إذاً سنة من وجهين:
من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء ورأي عثمان رضي الله عنه خير من رأينا.
ومن جهة أخرى أن له أصلاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
.16أنه إذا كثرت الأحزاب في الأمة فلا تنتم إلى حزب، فقد ظهرت طوائف من قديم الزمان مثل الخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة،ثم ظهرت أخيراً إخوانيون وسلفيون وتبليغيون وما أشبه ذلك، فكل هذه الفرق اجعلها على اليسار وعليك بالأمام وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "عَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنََّة الخُلَفَاء الرَاشِدين"
ولا شك أن الواجب على جميع المسلمين أن يكون مذهبهم مذهب السلف لا الانتماء إلى حزب معين يسمى السلفيين، والواجب أن تكون الأمة الاسلامية مذهبها مذهب السلف الصالح لا التحزب إلى من يسمى ( السلفيون) فهناك طريق السلف وهناك حزب يسمى (السلفيون) والمطلوب اتباع السلف،إلا أن الإخوة السلفيين هم أقرب الفرق إلى الصواب ولكن مشكلتهم كغيرهم أن بعض هذه الفرق يضلل بعضاً ويبدعه ويفسقه، ونحن لا ننكر هذا إذا كانوا مستحقين، لكننا ننكر معالجة هذه البدع بهذه الطريقة ، والواجب أن يجتمع رؤساء هذه الفرق، ويقولون: بيننا كتاب الله عزّ وجل وسنة رسوله فلنتحاكم إليهما لا إلى الأهواء والآراء، ولا إلى فلان أو فلان، فكلٌّ يخطئ ويصيب مهما بلغ من العلم والعبادة ولكن العصمة في دين الإسلام.
فهذا الحديث أرشد فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى سلوك طريق مستقيم يسلم فيه الإنسان، ولا ينتمي إلى أي فرقة إلا إلى طريق السلف الصالح سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين المهديين.
.17الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين تمسكاً تاماً، لقوله: "عضوا عَلَيهَا بالنَّوَاجِذِ".
.18التحذير من البدع، أي من محدثات الأمور، لأن (إيَّا) في قوله "وَإيَّاكم" معناها التحذير من محدثات الأمور لكن في الدين، أما في الدنيا إما مطلوب وإما مذموم حسب ما يؤدي إليه من النتائج.
فمثلاً: أساليب الحرب وأساليب الاتصالات،وأساليب المواصلات كلها محدثة، لم يوجد لها نوع فيما سبق، ولكن منها صالح ومنها فاسد حسب ما تؤدي إليه، فالمُحَذَّر منه المحدث في الدين عقيدة،أو قولاً،أو عملاً،فكل محدثة في الدين صغرت أو كبرت فإنها بدعة، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: كيف نجمع بين هذه الكلية العامة الواضحة البينة: "كُلَّ مُحدَثَةٍ بدعَةٌ" وبين قوله صلى الله عليه وسلم "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوم القِيامَةِ"[198]
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول:أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً" أي من ابتدأ العمل بالسنة، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره بعد أن حث على الصدقة للقوم الذين وفدوا إلى المدينة ورغب فيها، فجاء الصحابة كلٌّ بما تيسر له، وجاء رجل من الأنصار بصرة قد أثقلت يده فوضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ فَلَهُ أَجرَها وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيامَةِ" أي ابتدأ العمل سنة ثابتة، وليس أنه يأتي هو بسنة جديدة، بل يبتدئ العمل لأنه إذا ابتدأ العمل سن الطريق للناس وتأسوا به وأخذوا بما فعل.
الوجه الثاني:أن يقال: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً" أي سن الوصول إلى شيء مشروع من قبل كجمع الصحابة المصاحف على مصحف واحد، فهذا سنة حسنة لاشك، لأن المقصود من ذلك منع التفرق بين المسلمين وتضليل بعضهم بعضاً.
كذلك أيضاً جمع السنة وتبويبها وترتيبها، فهذه سنة حسنة يتوصل بها إلى حفظ السنة.
إذاً يُحمَل قوله: "مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةَ" على الوسائل إلى أمور ثابتة شرعاً، ووجه هذا أننا نعلم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، ونعلم أنه لو فُتِحَ الباب لكل شخص أو لكل طائفة أن تبتدع في الدين ما ليس منه لتمزقت الأمة وتفرقت،وقد قال الله عزّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159)
.19أن جميع البدع ضلالة ليس فيها هدى، بل هي شر محض حتى وإن استحسنها من ابتدعها فإنها ليست حسنى،بل ولا حسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَة" ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
وبناءً على هذا يتبين خطأ من قسم البدع إلى خمسة أقسام أو إلى ثلاثة أقسام،وأنه ليس على صواب، لأننا نعلم علم اليقين أن أعلم الناس بشريعة الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أنصح الخلق لعباد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أفصح الخلق نطقاً محمد صلى الله عليه وسلم ،وأن أصدق الخلق خبراً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أربعة أوصاف كلها مجتمعة على الأكمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي مَنْ بعده ويقول: البدعة ليست ضلالة، بل هي أقسام: حسنة ،ومباحة،ومكروهة، ومحرمة،وواجبة.
سبحان الله العظيم،يعني لولا إحسان الظن بهؤلاء العلماء لكانت المسألة كبيرة، أن يقسموا ما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ضلالة إلى أقسام: حسن و قبيح.
إذاً نقول: من ابتدع بدعة وقال: إنها حسنة. فإما أن لا تكون بدعة، وإما أن لا تكون حسنة قطعاً.
مثال ذلك: قالوا من البدع الحسنة جمع المصاحف في مصحف واحد، ومن البدع الحسنة كتابة الحديث، ومن البدع الحسنة إنشاء الدور لطلاب العلم وهكذا.
فنقول هذه ليست بدعة، وهي حسنة لا شك لكن ليست بدعة،هذه وسيلة إلى أمر مقصود شرعاً، نحن لم نبتدع عبادة من عندنا لكن أمرنا بشيء ورأينا أقرب طريق إليه هذا العمل فعملناه.
وهناك فرق بين الوسائل والذرائع وبين المقاصد، لأن جميع الأمثلة التي قالوا: إنها حسنة تنطبق على هذا، أي أنها وسائل إلى أمر مشروع مقصود.
ومثال آخر قول جماعة: إن الميكرفون الذي يؤدي الصوت إلى البعيد بدعة ولا يجوز العمل به؟
فنقول: هو وسيلة حسنة ، لأنه يوصل إلى المقصود، وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم للأذان مَنْ هو أندى صوتاً[199] لأنه يبلغ أكثر، وقال للعباس رضي الله عنه في غزوة حنين: نادى يا عباس لأنه كان صيتاً رضي الله عنه[200] .
إذاً رفع الصوت مطلوب، وهذه وسيلة من وسائله، ولهذا لما رُكِّبَ الميكرفون (مكبّر الصوت) في المسجد - الجامع الكبير بعنيزة- أول ما ركب على زمن شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - خطب في ذلك خطبة وأثنى على الذي أتى به وهو أحد المحسنين- رحمه الله - وقال: هذا من النعمة. وصدق،وهو من النعمة لأنه وسيلة إلى أمر مقصود.
كذلك أيضاً الاتصالات، الآن نتصل عن طريق الهاتف إلى أقصى العالم، فهل نقول استعمال هذا الهاتف بدعة لا تجوز؟
الجواب:لا نقول هذا، لأنه وسيلة، وقد يكون إلى خير أو إلى شر.
فعلى كل حال: يجب أن نعرف الفرق بين ما كان غاية وما كان ذريعة.
يوجد أناس أحدثوا أذكاراً يذكرون الله فيها على هيئات معينة، وقالوا: إن قلوبنا ترتاح إلى هذا الشيء، فهل نقول: هذا بدعة حسنة أو لا؟
الجواب:لا، لأنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه،فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبد الله عزّ وجل على هذا الوجه، وعلى هذا فقس.
إذاً الواجب علينا أن نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا بان كل بدعة ضلالة، وأنه لا حسن في البدع تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: ما ادعى صاحبه أنه بدعة حسنة فهو إما أن لا يكون حسناً وظنه حسناً،وإما أن لا يكون بدعة، أما أن يكون بدعة وحسناً فهذا لايمكن، ويجب علينا أن نؤمن بهذا عقيدة.
ولا يمكن أن نجادل أهل الباطل في بدعهم إلا بهذا الطريق بأن نقول: كل بدعة ضلالة.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، وخرج ليلة من الليالي فوجد الناس يصلون بإمام واحد فقال: نعمت البدعة هذه[201] فسماها بدعة؟
أجاب بعض العلماء بأن المراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لاالشرعية، ولكن هذا الجواب لا يستقيم، كيف البدعة اللغوية وهي صلاة؟
والصواب أنها بدعة نسبية بالنسبة لهجران هذا القيام بإمام واحد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من سن القيام بإمام واحد - أعني التراويح - فقد صلى بأصحابه ثلاث ليال في رمضان ثم تخلف خشية أن تفرض[202]، وتُرِكَت، وأصبح الناس يأتون للمسجد يصلي الرجل وحده ، والرجلان جميعاً،والثلاثة أوزاعاً، فرأى عمر رضي الله عنه بثاقب سياسته أن يردهم إلى السنة الأولى وهي الاجتماع على إمام واحد فجمعهم على تميم الداري وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وأمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشرة ركعة[203] ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة[204].
فيكون قوله: نعمت البدعة يعني بالبدعة النسبية، أي بالنسبة إلى أنها هجرت في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،وإلا فنحن نؤمن بأن كل بدعة ضلالة، ثم هذه الضلالات تنقسم إلى: بدع مكفرة، وبدع مفسقة ، وبدع يعذر فيها صاحبها.
ولكن الذي يعذر صاحبها فيها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصد.
وأضرب مثلاً بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين وهما: النووي وابن حجر رحمهما الله تعالى .
فالنووي : لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب ( رياض الصالحين )
وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح، ولكنه - رحمه الله - أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة لكن هو غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر.
أرأيتم الرجل الذي أضل راحلته حتى أيس منها، واضطجع تحت شجرة ينتظر الموت،فإذا بالناقة على رأسه، فأخذ بها وقال من شدة الفرح:اللهم أنت عبدي وأنا ربك،وهذه الكلمة كلمة كفر لكن هو لم يكفر،قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَخطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَح" [205] أرأيتم الرجل يكره على الكفر قولاً أو فعلاً فهل يكفر؟
الجواب:لا، القول كفر والفعل كفر لكن هذا القائل أو الفاعل ليس بكافر لأنه مكره.
أرأيتم الرجل الذي كان مسرفاً على نفسه فقال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذرُّوني في اليمِّ - أي البحر - فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين[206]، ظن أنه بذلك ينجو من عذاب الله، وهذا شك في قدرة الله عزّ وجل، والشك في قدرة الله كفر، ولكن هذا الرجل لم يكفر.
جمعه الله عزّ وجل وسأله لماذا صنعت هذا؟ قال: مخافتك. وفي رواية أخرى: من خشيتك، فغفر الله له.
أما الحافظ الثاني:فهو ابن حجر- رحمه الله - وابن حجر حسب ما بلغ علمي متذبذب في الواقع، أحياناً يسلك مسلك السلف، وأحياناً يمشي على طريقة التأويل التي هي في نظرنا تحريف.
مثل هذين الرجلين هل يمكن أن نقدح فيهما؟
أبداً، لكننا لا نقبل خطأهما، خطؤهما شيء واجتهادهما شيء آخر.
أقول هذا لأنه نبتت نابتة قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجوماً عنيفاً، وتقول: يجب إحراق فتح الباري وإحراق شرح صحيح مسلم، -أعوذ بالله- كيف يجرؤ إنسان على هذا الكلام، لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين.
والبدعة المكفرة أو المفسقة لا نحكم على صاحبها أنه كافر أو فاسق حتى تقوم عليه الحجة، لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) (القصص:59)
وقال عزّ وجل: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الاسراء: الآية15) ولو كان الإنسان يكفر ولو لم تقم عليه الحجة لكان يعذب، وقال عزّ وجل: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: الآية165) والآيات في هذه كثيرة.
فعلينا أن نتئد وأن لا نتسرع، وأن لا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه رجل مبتدع.
وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة، ونقول: هما من الأشاعرة؟
الجواب:لا، لأن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.
وما أحسن ما كتبه أخونا سفر الحوالي عما علم من مذهبهم، لأن أكثر الناس لا يفهم عنهم إلا أنهم مخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات، ولكن لهم خلافات كثيرة.
فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم فلا نقول: إنه أشعري.
أرأيتم لو أن إنساناً من الحنابلة اختار قولاً للشافعية فهل نقول إنه شافعي؟
الجواب:لا نقول إنه شافعي.
فانتبهوا لهذه المسائل الدقيقة، ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين، لأن غيبة العالم ليست قدحاً في شخصه فقط، بل في شخصه وما يحمله من الشريعة، لأنه إذا ساء ظن الناس فيه فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون المصيبة على الشريعة أكثر.
ثم إنكم ستجدون قوماً يسلكون هذا المسلك المشين فعليكم بنصحهم، وإذا وجد فيكم من لسانه منطلق في القول في العلماء فانصحوه وحذروه وقولوا له: اتق الله، أنت لم تُتَعَبَّد بهذا، وما الفائدة من أن تقول فلان فيه فلان فيه، بل قل: هذا القول فيه كذا وكذا بقطع النظر عن الأشخاص.
لكن قد يكون من الأفضل أن نذكر الشخص بما فيه لئلا يغتر الناس به، لكن لا على سبيل العموم هكذا في المجالس، لأنه ليس كل إنسان إذا ذكرت القول يفهم القائل، فذكر القائل جائز عند الضرورة، وإلا فالمهم إبطال القول الباطل، والله الموفق.




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:34 PM   المشاركة رقم: 29
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث التاسع والعشرون
عَن مُعَاذ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لاَتُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا، وَتُقِيْمُ الصَّلاة، وَتُؤتِي الزَّكَاة، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَلا : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَعْلَمُونْ) [السجدة:16-17] ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ قُلْتُ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْتُ:بَلَى يَارَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ يَانَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ)[207] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

الشرح

هِمَمُ الصحابة رضي الله عنهم عالية، فلم يقل:أخبرني بعمل أكسب فيه العشرة عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه بذلك ، بل قال: "أَخبِرنِي بِعَمَلٍٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني من النارَ ..." أي يكون سبباً لدخول الجنة والبعد عن النار .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لَقَد سَأَلتَ عَنْ عَظيمٍ" أي والله عظيم، هذه هي الحياة، أن تدخل الجنة وتبتعد عن النار، هذا هو الفوز والفلاح، قال الله عزّ وجل: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) (آل عمران: الآية185) ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، ولكن الحمد لله. "وَإِنهُ ليَسيرٌ عَلى مِنْ يَسرَهُ اللهُ عَلَيه" - اللهم يسره علينا يا رب العالمين - وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الدين الإسلامي مبني على اليسر، قال الله تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: الآية185) ومبني على السمح قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يبعثهم إلى الجهات: "يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، بَشِّروا وَلاَ تُنَفِّروا"[208]، "فَإِنَمَا بُعِثتُم مُيَسِّرين وَلَم تُبعَثوا مُعَسِّرين"[209] وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذا الدينُ يُسر، وَلَن يُشَاد الدينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ"[210] فهو يسير لكن لمن يسره الله عليه، ثم شرح ذلك فقال:
" تَعبُدَ اللهَ" بمعنى تتذلل له بالعبادة حباً وتعظيماً، مأخوذ من قولهم: طريق معبد أي ممهد ومهيأ للسير عليه، لا تعبد الله وأنت تعتقد أن لك الفضل على الله، فتكون كمن قال الله فيهم (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)(الحجرات: الآية17)
هذا وهم لم يمنوا على الله تعالى، بل على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، اعبد الله تعالى تذللاً له ومحبة وتعظيماً، فبالمحبة تفعل الطاعات، وبالتعظيم تترك المعاصي.
"لا تُشرِك بِهِ شيئاً" أي شي يكون حتى الأنبياء، بل الأنبياء ما جاؤوا إلا لمحاربة الشرك، فلا تشرك به شيئاً لا ملكاً مقرباً،ولا نبياً مرسلاً، والعبادة لها شروط نذكرها إن شاء الله في الفوائد.
قال:"وَتُقيم الصَلاةَ، وَتُؤتي الزكَاةَ، وَتَصوم رَمَضَانَ،وَتَحُج البَيتَ" هذه أركان الإسلام الخمسة ، وقد مرت.
ثم قال: "أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ" أبواب أي مسائل، وأبواب تستعمل في الباب الذي يفتح للداخل والخارج، وتستعمل في المسائل، ومن هذا قول العلماء في مؤلفاتهم:هذا الباب في كذا وكذا. وقول المحدثين: لا يصح في هذا الباب شيء، أي لا يصح في هذه المسألة شيء.
فقوله: "أَبوَابِ الخَيرِ" أي مسائل الخير، ويجوز أن يكون المراد به الباب المعروف الذي يكون منه الدخول والخروج.
"أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ" والجواب: بلى، لكن حذف للعلم به، لأنه لابد أن يكون الجواب بلى.
قال: "الصَّومُ جنةٌ" أي مانع يمنع صاحبه في الدنيا ويمنع صاحبه في الآخرة.
أما في الدنيا فإنه يمنع صاحبه من تناول الشهوات الممنوعة في الصوم، ولهذا يُنهى الصائم أن يقابل من اعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه، حتى إنه إذا سابه أحد أو شاتمه يقول: إني صائم.
وأما في الآخرة فهو جُنَّةٌ من النار، يقيك من النار يوم القيامة.
والصوم: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
"وَالصَّدَقَة تُطفِىء الخَطيئَة كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ" الصدقة مطلقاً سواء الزكاة الواجبة أو التطوع،و سواء كانت قليلة أو كثيرة.
"تُطفِىء الخَطيئَة" أي خطيئة بني آدم، وهي المعاصي.
"كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ" والماء يطفىء النار بدون تردد، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الأمر المعنوي بالأمر الحسي.
"وَصَلاةُ الرّجُل في جَوفِ اللَّيلِ" هذه معطوفة على قوله "الصدقة" أي وصلاة الرجل في جوف الليل تطفىء الخطيئة، وجوف الليل وسطه كجوف الإنسان.
ثم تلا صلى الله عليه وسلم : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ) [السجدة:16-17] تلا أي قرأ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) هذا في وصف المؤمنين، أي أنهم لا ينامون (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) إن ذكروا ذنوبهم خافوا، وإن ذكروا فضل الله طمعوا، فهم بين الخوف و الرجاء، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ( من ) هنا إما أن تكون للتبعيض والمعنى ينفقون بعضها، أوتكون للبيان،والمعنى ينفقون مما رزقهم الله عزّ وجل قليلاً كان أو كثيراً (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ، استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على فضيلة قيام الليل،ثم قال: "أَلاَ أُخبِرُكَ بِرَأَسِ الأَمرِ،وَعَمودِهِ،وذِروَةِ سِنَامِهِ" ثلاثة أشياء:
"قُلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: رَأَسُ الأَمرِ الإِسلام " أمر الإنسان الذي من أجله خُلِقَ، رأسه الإسلام ، أي أن يسلم لله تعالى ظاهراً وباطناً بقلبه وجوارحه.
"وَعَمودِهِ الصلاة" أي عمود الإسلام الصلوات ،والمراد بها الصلوات الخمس، وعمود الخيمة ما تقوم عليه، وإذا أزيل سقطت.
"وَذِروَةِ سِنَامِهِ الجِهَاد في سَبيلِ الله" ذكر الجهاد أنه ذروة السنام،لأن الذروة أعلى شيء ، وبالجهاد يعلو الإسلام ، فجعله ذروة سنام الأمر، قال الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
وقال عزّ وجل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) (محمد:35)
وقوله: "الجهاد" يعني في سبيل الله عزّ وجل والجهاد في سبيل الله بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، فقد سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ"[211] فهو لم يجب عن الثلاثة التي سئل عنها بل ذكر عبارة عامة،فقال:"مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُاللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ" ثم قال: "أَلاَ أُخبِرُكَ بِمَلاك ذَلكَ كُله" ملاك الشيء ما يملك به، والمعنى ما تملك به كل هذا .
"قُلتُ:بَلَى يَا رَسُول الله، قَالَ: فَأَخذ بِلِسانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَليكَ هَذا" أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: "كُفَّ عَليكَ هَذا" أي لاتطلقه في القيل والقال، وقد تقدم قوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَليَقُل خَيرَاً أَو ليَصمُت" فلا تتكلم إلا بخير.
"قُلتُ: يَا نَبيَّ الله وَإِنَّا لَمؤاخِذونَ بِما نَتَكَلّم بِه" الجملة خبرية لكنها استفهامية والمعنى:أإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني أن معاذاً رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حثاً على أن يفهم: "ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ" أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث،ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه، لكن المقصود بها الحث والإغراء.
وقال بعض العلماء: إن هذه الجملة على تقدير شرط والمعنى:ثكلتك أمك يا معاذ إن لم تكف لسانك، ولكن المعنى الأول أوضح وأظهر، وأنها تدل على الإغراء والحث ، ولهذا خاطبه بالنداء فقال : يا معاذ.
"وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ عَلى وجُوهِهم، أَو قَالَ: عَلَى منَاخِرهِم" هذا شك من الراوي "إِلا حَصائدُ أَلسِنَتِهم" أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال.
لما قال هذا الكلام اقتنع معاذ رضي الله عنه وعرف أن ملاك الأمر كف اللسان،لأن اللسان قد يقول الشرك، وقد يقول الكفر، وقد يقول الفحشاء، فهو ليس له حد.
من فوائد هذا الحديث:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، ولهذا يكثر منهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن العلم .
ولكن هل سؤالهم رضي الله عنهم لمجرد أن يعلموا بالحكم، أولأجل أن يطبقوه؟
الجواب: الثاني، عكس ما يفعله بعض الناس اليوم ،حيث يسأل ليعرف الحكم فقط، ثم هو بالخيار إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا غلط،بل اجعل غايتك من العلم العمل به دون الاطلاع على أقوال الناس.
ولهذا تجد بعض الناس يسأل هذا العالم وبعد أن يعرف ما عنده، يذهب يسأل عالماً آخراً وثالثاً ورابعاً، لأنه لايريد العمل بالعلم،بل يريد الاطلاع فقط، وهذا غلط،لا تسأل عن العلم إلا لهدف واحد وهو العمل
2- علو همة معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث لم يسأل عن أمور الدنيا، بل عن أمور الآخرة،حيث قال: "أَخْبِرنِي عَنْ عَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُبَاعِدُنِي مِنَ النَّار" وجدير به رضي الله عنه أن يكون بهذه المنزلة العالية، لأنه أحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن داعياً ومفتياً وحاكماً، فهو رضي الله عنه من أفقه الصحابة.
.3 إثبات الجنة والنار، والإيمان بهما أحد أركان الإيمان الستة كما سبق.
.4 أن العمل يدخل الجنة ويباعد عن النار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا.
وهنا يقع إشكال وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدِنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ"[212] فكيف يُجمع بين هذا الحديث وبين النصوص الأخرى الدالة على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله؟
أجاب العلماء - رحمهم الله، فقهاء الإسلام، أطباء القلوب والأبدان، ممن علمهم الله ذلك - فقالوا: الباء لها معنيان: تارة تكون للسببية، وتارة تكون للعوض.
فإذا قلت: بعت عليك هذا الكتاب بدرهم، فهذه للعوض.
وإذا قلت: أكرمتك بإكرامك إياي، فهذه للسببية.
فالمنفي هو باء العوض، والمثبت باء السببية.
فقالوا: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" أي على أن ذلك معاوضة، لأنه لوأراد الله عزّ وجل أن يعاوض العباد بأعمالهم وجزائهم لكانت نعمة واحدة تقضي على كل ما عمل، وأضرب مثلاً بنعمة النَّفَس، نعمة النفس هذه نعمة عظيمة لايعرف قدرهاإلا من ابتلي بضيق النفس، واسأل من ابتلوا بضيق النفس ماذا يعانون من هذا، والرجل الصحيح الذي ليس مصاباً بضيق النفس لايجد كلفة في التمتع بهذه النعمة، فتجده يتنفس وهو يتكلم، ويتنفس وهويأكل ولايحس بشيء.
هذه النعمة لو عملت أي عمل من الأعمال لاتقابلها، لأن هذه نعمة مستمرة دائماً، بل نقول: إذا وفقت للعمل الصالح فهذا نعمة قد أضل الله عزّ وجل عنها أمماً، وإذا كان نعمة احتاج إلى شكر، وإذا شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر آخر، ولهذا قال الشاعر:
إذا كانَ شكري نعمةَ اللهِ نعمةً عليَّ لهُ في مثلها يجب الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشُّكرِ إِلاَّ بفضلهِ وإن طالت الأيام واتّصل العمرُ
.5 أن هذا السؤال الذي صدر من معاذ رضي الله عنه سؤال عظيم، لأنه في الحقيقة هو سر الحياة والوجود، فكل موجود في هذه الدنيا من بني آدم أو من الجنّ غايته إما الجنة وإما النار، فلذلك كان هذا السؤال عظيماً.
.6 أن هذا وإن كان عظيماً فهو يسير على من يسره الله عليه.
.7 أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله تعالى التيسير، أن ييسر أموره في دينه ودنياه، لأن من لم ييسر الله عليه فإنه يصعب عليه كل شيء.
.8 ذكر أركان الإسلام الخمسة، في قوله: "تَعْبُدَ اللهَ لاتُشرِكْ بهِ شَيئاً، وَتُقِيْمَ الصّلاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ" ولم يذكر الرسالة، لأن عبادة الله تتضمن الرسالة، إذ لايمكن أن يعبد الإنسان ربه إلا بما شرع نبيه.
.9 أن أغلى المهمّات وأعلى الواجبات عبادة الله وحده لاشريك له، أي التوحيد.
.10-فضل النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم حيث يأتي بما لم يتحمله السؤال لقوله: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ" وهذا من عادته أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر شيء يضاف إلى الجواب أضافه، مثال ذلك:
سُئل عن ماء البحر أنتوضّأ به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ"[213] الطهور ماؤه هذا جواب السؤال و الحل ميتته زائد،لكن لماكان الناس في البحر يحتاجون إلى الأكل بين لهم أن ميتته حلال.
وقد عاب قوم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقالوا: إنه إذا سئل عن المسألة أتى بمسائل كثيرة، فأجاب عن ذلك بعض تلاميذه وقال: إن هذا من جوده وكرمه في بذل العلم، واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ" وهو لم يسأل إلا عن الوضوء بماء البحر.
.11 أن الصوم جنة، وسبق معناها في الشرح، وبناء على هذا فمن لم يكن صومه جنة له فإنه ناقص، ولهذا يحرم على الإنسان تناول المعاصي في حال الصوم.
ولكن هل المعاصي تبطل الصوم أو لا؟
فالجواب: إن كان هذا المحرم خاصاً بالصوم أفسد الصوم، وإن كان عاماً لم يفسده.
مثال الأول: يحرم على الصائم الأكل والشرب، فلو أكل أو شرب فسد صومه، كما يحرم على الصائم وغيره الغيبة وهي "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَه"[214] فلو اغتاب الصائم أحداً تحرم غيبته لم يفسد صومه،لأن هذا النهي لايختص بالصوم.
هذه القاعدة عند جمهور أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إذا أتى الصائم بما يحرم ولو على سبيل العموم فسد صومه، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"[215] لكن ما ذهب إليه الجمهور أصحّ، والحديث إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم به أن يبين الحكمة من الصوم،لا أن يبين فساد الصوم بقول الزور والعمل بالزور والجهل.
.12 أن الصدقة تطفئ الخطيئة، ففيه الحث على الصدقة فإذا كثرت خطاياك فأكثر من الصدقة فإنها تطفئ الخطيئة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"[216] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ،.. إلى أَنْ قَالَ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاتَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ"[217] ومعنى الحديث: أنه في يوم القيامة ليس هناك شجر ولامغارات ولاجبال ولابناء يستظل به الناس إلا الظل الذي يخلقه الله عزّ وجل فيظل به عباده، وهو إما ظل العرش كما قيل به، أو غيره. المهم أنه لايجوز أن نعتقد أن المعنى: ظل الله تعالى نفسه، فإن الله تعالى نور السموات والأرض، وحجابه النور، والظل يقتضي ثلاثة أشياء: مُتَظَلَّلٌ عَنْهُ، وَظِلٌّ، وَمُظَلَّلٌ.
والأعلى منها المظلل عنه، ولايمكن أن يكون فوق الله تعالىشيء، بأن يكون الله تعالى هو الوسط بين الشمس وبين العباد، فهذا شيء مستحيل.
وليس هذا من باب التأويل كما قيل به، لأن جوابنا على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن التأويل إذا دل عليه الدليل فلا مانع منه، فهاهم السلف أولوا المعيّة بالعلم خوفاً بأن يُظن أن المعيّة بالذات في نفس الأرض.
وأول الفقهاء قول الله عزّ وجل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98] بأن المراد إذا أردت أن تقرأ.
فالتأويل الذي دل عليه الدليل ليس تحريفاً، بل هو تفسير الكلام.
الوجه الثاني: أن التأويل المذموم هو التحريف، بأن يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر بلا دليل.
.13 أن الخطيئة فيها شيء من الحرارة لأنه يعذب عليها الإنسان بالنار، والماء فيه شيء من البرودة، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالماء يطفىء النار.
.14 حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما يمر علينا حسن تعليمه صلوات الله وسلامه عليه، لأن حسن تعليمه من تمام تبليغه وذلك بقياس الأشياء المعنوية على الأشياء الحسية،كما في قوله: "تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ".
.15 الحث على صلاة الليل، وبيان أنها تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار.
.16-استدلال النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع أن القرآن أنزل عليه، لكن القرآن يستدل به لأن كلام الله تعالى مقنع لكل أحد، ولهذا تلا هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)(السجدة: الآية16)
فإن قال قائل: لم يذكر في الحديث أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد قال الله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)
فالجواب: أن هذه الآية لا يراد بها التلاوة، وإنما يراد بها الاستدلال، والآية الكريمة: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) يعني للتلاوة، وأحاديث كثيرة من هذا النوع يُذكر فيها الاستشهاد بالآيات،ولا يذكر فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
مسألة: كثير من الأخوة إذا أراد أن يقرأ قال: قال الله عزّ وجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)
وهذا تخليط، لأنه إذا قال: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أدخل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في مقول القول، وهذا غلط، وإذا كان ولابد أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقلها قبل، أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى.
ولكن الذي مرّ علينا كثيراً أن ما قصد به الاستدلال فإنه لايتعوّذ فيه بخلاف ما قصد فيه التلاوة، والآية ظاهرة: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98].
.17 فضيلة أولئك القوم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، لأنهم يشتغلون بالصلاة يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وليس الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع في اللهو واللغو والحرام، فإن هؤلاء بقاؤهم ساهرين إما مكروه، وإما محرّم حسب مايشتغلون به.
.18-ومن فوائد الآية التي استشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ينبغي للإنسان أن يكون عند دعوة الله عزّ وجل خائفاً راجياً، لقوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً)(السجدة: الآية16)
والمراد دعاء العبادة ودعاء المسألة، فأنت إذا عبدت الله كن خائفاً راجياً، تخاف أن لايقبل منك،كما قال الله عزّ وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ )(المؤمنون: الآية60) أي خائفة أن لا يقبل منها، ولكن أحسن الظن بالله.
وأيضاً: كن راجياً ربك عزّ وجل حتى تسير إلى الله بين الخوف والرجاء.
وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك: هل الأولى أن يغلب الإنسان جانب الرجاء، أو الأولى أن يغلب جانب الخوف، أو يجعلهما سواء؟
فقال الإمام أحمد - رحمه الله-: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً، فأيهما غلب هلك صاحبه.
وقال بعض أهل العلم: ينبغي عند الموت أن يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لايَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ"[218] أما في حال الصحة فيغلب جانب الخوف لأجل أن يحمله خوفه على الاستقامة.
وقال بعض أهل العلم: في حال فعل الطاعة يغلب جانب الرجاء، وفي حال الهمّ بالمعصية يغلب جانب الخوف، وهذا حسن.
ووجه الأول أنه في حال الطاعة يغلب جانب الرجاء هو أنه يقول: إن الذي منَّ عليَّ بهذه الطاعة سيمنُّ عليَّ بقبولها، فيجعل منّة الله تعالى عليه بها دليلاً على منّة الله تعالى عليه بقبولها، ويغلب جانب الرجاء، ويقول: قمت بما أمرت به وأرجو من الله الثواب.
أما إذا همّ بالمعصية فيغلب جانب الخوف لئلا يقع في المعصية، وهذا القول من حيث المعنى أحسن الأقوال، لكن مع ذلك لانحكم به على كل فرد، إذ قد يعرض للإنسان حالات يغلب فيها الرجاء وحالات يغلب فيها الخوف، لكن نحن نتكلم عن الخوف والرجاء من حيث هما، لا باعتبار كل واحد من الناس .
.19 ومن فوائد الحديث في ضمن الآية: فضيلة الإنفاق مما رزق الله العبد، لقوله: ) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(السجدة: من الآية16).
وهل المراد الرزق الطيب أو مطلق الرزق؟
الآية مطلقة، ولكن من اكتسب مالاً محرّماً، أو أنفق مالاً محرّماً فلا مدح له، كمن سرق مالاً ثم ذهب يتصدق به، فلا يستقيم. أو تصدق بخنزير فلا يستقيم. وعلى هذا يكون المراد بالرزق في الآية الرزق الطيب.
20- ومن فوائد الحديث: أن رأس الأمر - أي أمر الدنيا والآخرة- الإسلام. والإسلام هوما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ بعد بعثته لا إسلام إلا ما كان على شريعته، وعلى هذا فلو سألك سائل: هل اليهود مسلمون؟ هل النصارى مسلمون؟
فالجواب: أن اليهود في حال قيام شريعة التوراة إذا اتبعوها فهم مسلمون، وكذلك النصارى في حال قيام الإنجيل إذا اتبعوه فهم مسلمون، ولهذا في القرآن الكريم ذكر الإسلام لهؤلاء وهؤلاء. وأما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كل من كفر به ليس بمسلم حتى لو قال:أني أسلمت.
.21 أن الصلاة عمود الدين، والعمود لا يستقيم البناء إلا به.
ويتفرّع على هذا: أن من ترك الصلاة فهو كافر، لأن العمود إذا سقط لم يستقم البناء، وهذا القول هو القول الراجح الذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم حتى حكي هذا القول إجماعاً من الصحابة، وهو مقتضى النظر والقياس، إذ كيف يمكن لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يحافظ على ترك الصلاة؟ لايمكن هذا أبداً.
وقد كتبنا في هذا رسالة موجزة - والحمد لله - لكنها تضمنت ذكر الأدلة على كفر تارك الصلاة والجواب عن قول من يقول: إنه لايكفر.
وليس عند من يقول إنه لايكفر دليل، إلا نصوصاً عامة تخص بنصوص كفر تارك الصلاة، أو نصوص قيدت بما لايمكن مع هذا القيد أن يترك الصلاة، أو نصوص قيدت بقيود لا يمكن معها ترك الصلاة.
المهم على كل حال هذه الرسالة ينبغي لكل إنسان أن يقرأها متجرداً عن الهوى، وفي ظني أنه لو شاع هذا القول بين الناس لارتدع كثير من الناس عن ترك الصلاة، وأما إذا قيل: ترك الصلاة فسق من الفسوق فكثير من الناس لا يبالي أن يكون فاسقاً أو مستقيماً.
ويرى بعض أهل العلم من السابقين واللاحقين أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها بلا عذر كفر.
ولكن الذي أرى: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة نهائياً.
.22 أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والذروة هو الشيء العالي، لأنه إذا استقام الجهاد فمقتضاه أن المسلمين تكون كلمتهم هي العليا، وهذا ذروة السنام.
ولكن يقيد هذا الإطلاق بما إذا كان الجهاد في سبيل الله عزّ وجل يتعيّن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية - أي حمية لقومه وعصبية - ويقاتل شجاعة - أي لأنه شجاع، والشجاع يحب القتال، ويقاتل ليرى مكانه، وفي لفظ: ويقاتل رياءً،أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا كله وقال: "مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِي سَبِيْلِ اللهِ" هذا الميزان.
ولذلك نجد الذين قاتلوا حميّة ممن ينتسبون للإسلام لم ينجحوا، ولن ينجحوا، فماذا حصل من قتال العرب لليهود؟ حصل الفشل، وحصلت الهزيمةلأنهم لايقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، بل يقاتلون: للقومية العربية، هذه القومية حصل بسببها من المفاسد بأن دخل فيهم النصارى واليهود العرب مادام مناط الحكم هو العروبة، كما دخل فيهم الشيوعيون وغيرهم إذا كانوا عرباً، ولايعقل أن يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً يقاتل لحماية الإسلام.
وخرج الملايين من المسلمين من غير العرب وصار في نفوسهم شيء وقالوا: لماذا تخرجوننا من القتال؟ ولهذا صارت الهزيمة والفشل الذي ليس بعده استرداد للعزة والعلو، وإلا قد يكون هزيمة يبتلي الله بها كما حصل في أحد ولكن استردّ المسلمون عزهم وعلوّهم.
أما نحن فلن نزال في أرجوحة،كان الناس في عنفوان العروبة - كما يقولون- عندهم ثلاث لاءات يسمّونها اللاءات الثلاث: لاصلح، لاسلام، ولا استسلام. والآن يهود براك الخبيث جاء بخمس لاءات،والعرب الآن يلهثون وراءهم يطلبون الصلح، ولكنه ليس بحاصل إلا على ثروات العرب، وربما دمائهم أيضاً.
فالمهم: أن الجهاد المحمود المفروض على ا لمسلمين هو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
.23-أن ملاك هذا كله كف اللسان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"
.24 خطورة اللسان، فاللسان من أخطر ما يكون، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار كذا وكذا،سنوات، وهو لم يلق لها بالاً، يتكلم بكلمة الكفر لا يلقي لها بالاً فيكفر ويرتد - والعياذ بالله -.
والغيبة الآن ملأت المجالس إلا ماشاء الله، وهي من آفات اللسان.
والكذب من آفات اللسان، والسبّ مقابلة وجهاً لوجه من آفات اللسان، والنميمة من آفات اللسان، فإذا حفظ الإنسان لسانه حفظه الله عزّ وجل، ولهذا جاء في الحديث: "مَنْ يَضْمَنُ لِي مَابَيْنَ لَحْيَيْهِ وفَخِذَيْهِ أَضمَنُ لَهُ الجَنَّةَ"[219] أي من كفَّ عن الزنا وعن القول المحرّم فإنه يدخل الجنة.
.25 التعليم بالقول وبالفعل، لقوله: "أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" ولم يقل: كفّ عليك لسانك، بل أخذ بلسانه وقال: كفّ عليك هذا، لأنه إذا حصل الفعل رأت العين وانطبعت الصورة في القلب بحيث لاينسى، والمسموع ينسى لكن المرئي لاينسى،بل يبقى في صفحة الذهن إلى ماشاء الله عزّ وجل.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أحياناً يعلمون الناس بالفعل، ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا بماء وتوضّأ أمام الناس[220]، حتى يفقهوا ذلك بالفعل.
.26-أن الصحابة رضي الله عنهم لايبقون في نفوسهم إشكالاً ولاقلقاً، بل يسألون عنه حتى ينكشف الأمر، قال معاذ رضي الله عنه: "وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟" وهذا إشكال يرد، لأن الإنسان إذا كان مؤاخذاً بما يتكلّم به فما أكثر المؤاخذة لكثرة الكلام فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا نأخذ فائدة عظيمة وهي:أن ما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد في الكتاب والسنة من مسائل الاعتقاد فالواجب الكفّ عنها، فإذا سألك إنسان عن شيء في الاعتقاد،سواء في أسماء الله، أو صفات الله أو أفعال الله، أو في اليوم الآخر أو غيره ولم يسأل عنه الصحابة فقل له:هذا بدعة، لو كان خيراً لسبقونا إليه لأنهم - والله - أحرص منا علىالعلم، وأشد منا خشية لله تعالى.
.27 جواز إطلاق القول الذي لايقصد وإنما يدرج علىاللسان، لقوله: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ" هذه الكلمة دعاء، لكنها تجري على الألسن لقصد الحث لا للدعاء، وهي موافقة للقاعدة الشرعية،وهي أن الله تعالى لا يؤاخذ باللغو كما قال الله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)(المائدة: الآية89) وفي الآية الأخرى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(البقرة: الآية225) وعلى هذا فما يجري على اللسان من الأيمان لا يؤاخذ به الإنسان، فمثلاً: دائماً يقول لك صاحبك: هل ستذهب إلى فلان؟ فتقول: لا والله لن أذهب إليه، ثم تذهب، فلا كفارة عليك، لأن هذا جرى علىاللسان بلا قصد، فما لايعقد عليه القلب فإنه ليس بشيء،ولا يؤاخذ به الإنسان.
.28 أن أهل النار - والعياذ بالله - قد يكبون في النار على وجوههم، لقوله: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم أوقال: عَلَى مَنَاخِرِهِم" وهذا اختلاف لفظ والمعنىواحد،لأن المنخر في الوجه، واسمع قول الله عزّ وجل: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ)(الزمر: الآية24) العادة أن الإنسان يتقي العذاب بيده، لكن أهل النار - أجارنا الله منها بمنّه وكرمه - لا يستطيعون، تلفح وجوههم النار،يتقي بوجهه سوء العذاب
وهذا دليل على كمال الإهانة، لأن الوجه محل الإكرام، فإذا أهين إلى هذا الحد فهذا غاية ما يكون من الذلّ، قال الله تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةوَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ )(الشورى: الآية45)
.29 الحذر من إطلاق اللسان، وقد مرّ علينا في الأحاديث السابقة "مَنْ كَان يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَو لِيَصْمُتْ" والله لو سرنا على هذا لسلمنا من أشياء كثيرة، وما أكثر ما يقول الإنسان شيئاً ثم يندم في الحال، لكن الكلمة إذاخرجت فهي كالرصاصة تخرج من البندق، لايمكن ردّها، لكن مادامت في قلبك يمكنك أن تتحكّم فيها.
30- تحرّي مانقل في الحديث من أقوال رسول الله حيث قال: "عَلَى وُجُوهِهِم أو مَنَاخِرِهِم" وهذا يدلّ على الأمانة التامّة في نقل الأحاديث. ولله الحمد .



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 06-08-2012, 04:34 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث التاسع والعشرون
عَن مُعَاذ بن جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لاَتُشْرِكُ بِهِ شَيْئَا، وَتُقِيْمُ الصَّلاة، وَتُؤتِي الزَّكَاة، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ تَلا : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حَتَّى بَلَغَ: (يَعْلَمُونْ) [السجدة:16-17] ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ؟ قُلْتُ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْتُ:بَلَى يَارَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ يَانَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ)[207] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

الشرح

هِمَمُ الصحابة رضي الله عنهم عالية، فلم يقل:أخبرني بعمل أكسب فيه العشرة عشرين أو ثلاثين أو ما أشبه بذلك ، بل قال: "أَخبِرنِي بِعَمَلٍٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني من النارَ ..." أي يكون سبباً لدخول الجنة والبعد عن النار .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لَقَد سَأَلتَ عَنْ عَظيمٍ" أي والله عظيم، هذه هي الحياة، أن تدخل الجنة وتبتعد عن النار، هذا هو الفوز والفلاح، قال الله عزّ وجل: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) (آل عمران: الآية185) ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، ولكن الحمد لله. "وَإِنهُ ليَسيرٌ عَلى مِنْ يَسرَهُ اللهُ عَلَيه" - اللهم يسره علينا يا رب العالمين - وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الدين الإسلامي مبني على اليسر، قال الله تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةيُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: الآية185) ومبني على السمح قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يبعثهم إلى الجهات: "يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، بَشِّروا وَلاَ تُنَفِّروا"[208]، "فَإِنَمَا بُعِثتُم مُيَسِّرين وَلَم تُبعَثوا مُعَسِّرين"[209] وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذا الدينُ يُسر، وَلَن يُشَاد الدينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ"[210] فهو يسير لكن لمن يسره الله عليه، ثم شرح ذلك فقال:
" تَعبُدَ اللهَ" بمعنى تتذلل له بالعبادة حباً وتعظيماً، مأخوذ من قولهم: طريق معبد أي ممهد ومهيأ للسير عليه، لا تعبد الله وأنت تعتقد أن لك الفضل على الله، فتكون كمن قال الله فيهم (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)(الحجرات: الآية17)
هذا وهم لم يمنوا على الله تعالى، بل على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، اعبد الله تعالى تذللاً له ومحبة وتعظيماً، فبالمحبة تفعل الطاعات، وبالتعظيم تترك المعاصي.
"لا تُشرِك بِهِ شيئاً" أي شي يكون حتى الأنبياء، بل الأنبياء ما جاؤوا إلا لمحاربة الشرك، فلا تشرك به شيئاً لا ملكاً مقرباً،ولا نبياً مرسلاً، والعبادة لها شروط نذكرها إن شاء الله في الفوائد.
قال:"وَتُقيم الصَلاةَ، وَتُؤتي الزكَاةَ، وَتَصوم رَمَضَانَ،وَتَحُج البَيتَ" هذه أركان الإسلام الخمسة ، وقد مرت.
ثم قال: "أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ" أبواب أي مسائل، وأبواب تستعمل في الباب الذي يفتح للداخل والخارج، وتستعمل في المسائل، ومن هذا قول العلماء في مؤلفاتهم:هذا الباب في كذا وكذا. وقول المحدثين: لا يصح في هذا الباب شيء، أي لا يصح في هذه المسألة شيء.
فقوله: "أَبوَابِ الخَيرِ" أي مسائل الخير، ويجوز أن يكون المراد به الباب المعروف الذي يكون منه الدخول والخروج.
"أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبوَابِ الخَيرِ" والجواب: بلى، لكن حذف للعلم به، لأنه لابد أن يكون الجواب بلى.
قال: "الصَّومُ جنةٌ" أي مانع يمنع صاحبه في الدنيا ويمنع صاحبه في الآخرة.
أما في الدنيا فإنه يمنع صاحبه من تناول الشهوات الممنوعة في الصوم، ولهذا يُنهى الصائم أن يقابل من اعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه، حتى إنه إذا سابه أحد أو شاتمه يقول: إني صائم.
وأما في الآخرة فهو جُنَّةٌ من النار، يقيك من النار يوم القيامة.
والصوم: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
"وَالصَّدَقَة تُطفِىء الخَطيئَة كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ" الصدقة مطلقاً سواء الزكاة الواجبة أو التطوع،و سواء كانت قليلة أو كثيرة.
"تُطفِىء الخَطيئَة" أي خطيئة بني آدم، وهي المعاصي.
"كَمَا يُطفِىء المَاءُ النَّارَ" والماء يطفىء النار بدون تردد، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم الأمر المعنوي بالأمر الحسي.
"وَصَلاةُ الرّجُل في جَوفِ اللَّيلِ" هذه معطوفة على قوله "الصدقة" أي وصلاة الرجل في جوف الليل تطفىء الخطيئة، وجوف الليل وسطه كجوف الإنسان.
ثم تلا صلى الله عليه وسلم : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ) [السجدة:16-17] تلا أي قرأ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) هذا في وصف المؤمنين، أي أنهم لا ينامون (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) إن ذكروا ذنوبهم خافوا، وإن ذكروا فضل الله طمعوا، فهم بين الخوف و الرجاء، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ( من ) هنا إما أن تكون للتبعيض والمعنى ينفقون بعضها، أوتكون للبيان،والمعنى ينفقون مما رزقهم الله عزّ وجل قليلاً كان أو كثيراً (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ، استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على فضيلة قيام الليل،ثم قال: "أَلاَ أُخبِرُكَ بِرَأَسِ الأَمرِ،وَعَمودِهِ،وذِروَةِ سِنَامِهِ" ثلاثة أشياء:
"قُلتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: رَأَسُ الأَمرِ الإِسلام " أمر الإنسان الذي من أجله خُلِقَ، رأسه الإسلام ، أي أن يسلم لله تعالى ظاهراً وباطناً بقلبه وجوارحه.
"وَعَمودِهِ الصلاة" أي عمود الإسلام الصلوات ،والمراد بها الصلوات الخمس، وعمود الخيمة ما تقوم عليه، وإذا أزيل سقطت.
"وَذِروَةِ سِنَامِهِ الجِهَاد في سَبيلِ الله" ذكر الجهاد أنه ذروة السنام،لأن الذروة أعلى شيء ، وبالجهاد يعلو الإسلام ، فجعله ذروة سنام الأمر، قال الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
وقال عزّ وجل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) (محمد:35)
وقوله: "الجهاد" يعني في سبيل الله عزّ وجل والجهاد في سبيل الله بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، فقد سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ"[211] فهو لم يجب عن الثلاثة التي سئل عنها بل ذكر عبارة عامة،فقال:"مَن قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُاللهِ هي العُليَا فَهوَ في سَبيلِ اللهِ" ثم قال: "أَلاَ أُخبِرُكَ بِمَلاك ذَلكَ كُله" ملاك الشيء ما يملك به، والمعنى ما تملك به كل هذا .
"قُلتُ:بَلَى يَا رَسُول الله، قَالَ: فَأَخذ بِلِسانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَليكَ هَذا" أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: "كُفَّ عَليكَ هَذا" أي لاتطلقه في القيل والقال، وقد تقدم قوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَليَقُل خَيرَاً أَو ليَصمُت" فلا تتكلم إلا بخير.
"قُلتُ: يَا نَبيَّ الله وَإِنَّا لَمؤاخِذونَ بِما نَتَكَلّم بِه" الجملة خبرية لكنها استفهامية والمعنى:أإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ يعني أن معاذاً رضي الله عنه تعجب كيف يؤاخذ الإنسان بما يتكلم به.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حثاً على أن يفهم: "ثَكِلَتكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذ" أي فقدتك، وهذه الكلمة يقولها العرب للإغراء والحث،ولا يقصدون بها المعنى الظاهر، وهو أن تفقده أمه، لكن المقصود بها الحث والإغراء.
وقال بعض العلماء: إن هذه الجملة على تقدير شرط والمعنى:ثكلتك أمك يا معاذ إن لم تكف لسانك، ولكن المعنى الأول أوضح وأظهر، وأنها تدل على الإغراء والحث ، ولهذا خاطبه بالنداء فقال : يا معاذ.
"وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ عَلى وجُوهِهم، أَو قَالَ: عَلَى منَاخِرهِم" هذا شك من الراوي "إِلا حَصائدُ أَلسِنَتِهم" أي ما يحصدون بألسنتهم من الأقوال.
لما قال هذا الكلام اقتنع معاذ رضي الله عنه وعرف أن ملاك الأمر كف اللسان،لأن اللسان قد يقول الشرك، وقد يقول الكفر، وقد يقول الفحشاء، فهو ليس له حد.
من فوائد هذا الحديث:
1- حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، ولهذا يكثر منهم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن العلم .
ولكن هل سؤالهم رضي الله عنهم لمجرد أن يعلموا بالحكم، أولأجل أن يطبقوه؟
الجواب: الثاني، عكس ما يفعله بعض الناس اليوم ،حيث يسأل ليعرف الحكم فقط، ثم هو بالخيار إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وهذا غلط،بل اجعل غايتك من العلم العمل به دون الاطلاع على أقوال الناس.
ولهذا تجد بعض الناس يسأل هذا العالم وبعد أن يعرف ما عنده، يذهب يسأل عالماً آخراً وثالثاً ورابعاً، لأنه لايريد العمل بالعلم،بل يريد الاطلاع فقط، وهذا غلط،لا تسأل عن العلم إلا لهدف واحد وهو العمل
2- علو همة معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث لم يسأل عن أمور الدنيا، بل عن أمور الآخرة،حيث قال: "أَخْبِرنِي عَنْ عَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُبَاعِدُنِي مِنَ النَّار" وجدير به رضي الله عنه أن يكون بهذه المنزلة العالية، لأنه أحد فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن داعياً ومفتياً وحاكماً، فهو رضي الله عنه من أفقه الصحابة.
.3 إثبات الجنة والنار، والإيمان بهما أحد أركان الإيمان الستة كما سبق.
.4 أن العمل يدخل الجنة ويباعد عن النار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا.
وهنا يقع إشكال وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدِنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ"[212] فكيف يُجمع بين هذا الحديث وبين النصوص الأخرى الدالة على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله؟
أجاب العلماء - رحمهم الله، فقهاء الإسلام، أطباء القلوب والأبدان، ممن علمهم الله ذلك - فقالوا: الباء لها معنيان: تارة تكون للسببية، وتارة تكون للعوض.
فإذا قلت: بعت عليك هذا الكتاب بدرهم، فهذه للعوض.
وإذا قلت: أكرمتك بإكرامك إياي، فهذه للسببية.
فالمنفي هو باء العوض، والمثبت باء السببية.
فقالوا: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ" أي على أن ذلك معاوضة، لأنه لوأراد الله عزّ وجل أن يعاوض العباد بأعمالهم وجزائهم لكانت نعمة واحدة تقضي على كل ما عمل، وأضرب مثلاً بنعمة النَّفَس، نعمة النفس هذه نعمة عظيمة لايعرف قدرهاإلا من ابتلي بضيق النفس، واسأل من ابتلوا بضيق النفس ماذا يعانون من هذا، والرجل الصحيح الذي ليس مصاباً بضيق النفس لايجد كلفة في التمتع بهذه النعمة، فتجده يتنفس وهو يتكلم، ويتنفس وهويأكل ولايحس بشيء.
هذه النعمة لو عملت أي عمل من الأعمال لاتقابلها، لأن هذه نعمة مستمرة دائماً، بل نقول: إذا وفقت للعمل الصالح فهذا نعمة قد أضل الله عزّ وجل عنها أمماً، وإذا كان نعمة احتاج إلى شكر، وإذا شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر آخر، ولهذا قال الشاعر:
إذا كانَ شكري نعمةَ اللهِ نعمةً عليَّ لهُ في مثلها يجب الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشُّكرِ إِلاَّ بفضلهِ وإن طالت الأيام واتّصل العمرُ
.5 أن هذا السؤال الذي صدر من معاذ رضي الله عنه سؤال عظيم، لأنه في الحقيقة هو سر الحياة والوجود، فكل موجود في هذه الدنيا من بني آدم أو من الجنّ غايته إما الجنة وإما النار، فلذلك كان هذا السؤال عظيماً.
.6 أن هذا وإن كان عظيماً فهو يسير على من يسره الله عليه.
.7 أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله تعالى التيسير، أن ييسر أموره في دينه ودنياه، لأن من لم ييسر الله عليه فإنه يصعب عليه كل شيء.
.8 ذكر أركان الإسلام الخمسة، في قوله: "تَعْبُدَ اللهَ لاتُشرِكْ بهِ شَيئاً، وَتُقِيْمَ الصّلاةَ، وَتُؤتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ" ولم يذكر الرسالة، لأن عبادة الله تتضمن الرسالة، إذ لايمكن أن يعبد الإنسان ربه إلا بما شرع نبيه.
.9 أن أغلى المهمّات وأعلى الواجبات عبادة الله وحده لاشريك له، أي التوحيد.
.10-فضل النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم حيث يأتي بما لم يتحمله السؤال لقوله: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ" وهذا من عادته أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر شيء يضاف إلى الجواب أضافه، مثال ذلك:
سُئل عن ماء البحر أنتوضّأ به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ"[213] الطهور ماؤه هذا جواب السؤال و الحل ميتته زائد،لكن لماكان الناس في البحر يحتاجون إلى الأكل بين لهم أن ميتته حلال.
وقد عاب قوم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقالوا: إنه إذا سئل عن المسألة أتى بمسائل كثيرة، فأجاب عن ذلك بعض تلاميذه وقال: إن هذا من جوده وكرمه في بذل العلم، واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيتَتُهُ" وهو لم يسأل إلا عن الوضوء بماء البحر.
.11 أن الصوم جنة، وسبق معناها في الشرح، وبناء على هذا فمن لم يكن صومه جنة له فإنه ناقص، ولهذا يحرم على الإنسان تناول المعاصي في حال الصوم.
ولكن هل المعاصي تبطل الصوم أو لا؟
فالجواب: إن كان هذا المحرم خاصاً بالصوم أفسد الصوم، وإن كان عاماً لم يفسده.
مثال الأول: يحرم على الصائم الأكل والشرب، فلو أكل أو شرب فسد صومه، كما يحرم على الصائم وغيره الغيبة وهي "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَه"[214] فلو اغتاب الصائم أحداً تحرم غيبته لم يفسد صومه،لأن هذا النهي لايختص بالصوم.
هذه القاعدة عند جمهور أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إذا أتى الصائم بما يحرم ولو على سبيل العموم فسد صومه، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"[215] لكن ما ذهب إليه الجمهور أصحّ، والحديث إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم به أن يبين الحكمة من الصوم،لا أن يبين فساد الصوم بقول الزور والعمل بالزور والجهل.
.12 أن الصدقة تطفئ الخطيئة، ففيه الحث على الصدقة فإذا كثرت خطاياك فأكثر من الصدقة فإنها تطفئ الخطيئة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ"[216] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ،.. إلى أَنْ قَالَ: وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاتَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ"[217] ومعنى الحديث: أنه في يوم القيامة ليس هناك شجر ولامغارات ولاجبال ولابناء يستظل به الناس إلا الظل الذي يخلقه الله عزّ وجل فيظل به عباده، وهو إما ظل العرش كما قيل به، أو غيره. المهم أنه لايجوز أن نعتقد أن المعنى: ظل الله تعالى نفسه، فإن الله تعالى نور السموات والأرض، وحجابه النور، والظل يقتضي ثلاثة أشياء: مُتَظَلَّلٌ عَنْهُ، وَظِلٌّ، وَمُظَلَّلٌ.
والأعلى منها المظلل عنه، ولايمكن أن يكون فوق الله تعالىشيء، بأن يكون الله تعالى هو الوسط بين الشمس وبين العباد، فهذا شيء مستحيل.
وليس هذا من باب التأويل كما قيل به، لأن جوابنا على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن التأويل إذا دل عليه الدليل فلا مانع منه، فهاهم السلف أولوا المعيّة بالعلم خوفاً بأن يُظن أن المعيّة بالذات في نفس الأرض.
وأول الفقهاء قول الله عزّ وجل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98] بأن المراد إذا أردت أن تقرأ.
فالتأويل الذي دل عليه الدليل ليس تحريفاً، بل هو تفسير الكلام.
الوجه الثاني: أن التأويل المذموم هو التحريف، بأن يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر بلا دليل.
.13 أن الخطيئة فيها شيء من الحرارة لأنه يعذب عليها الإنسان بالنار، والماء فيه شيء من البرودة، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالماء يطفىء النار.
.14 حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما يمر علينا حسن تعليمه صلوات الله وسلامه عليه، لأن حسن تعليمه من تمام تبليغه وذلك بقياس الأشياء المعنوية على الأشياء الحسية،كما في قوله: "تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ".
.15 الحث على صلاة الليل، وبيان أنها تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار.
.16-استدلال النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع أن القرآن أنزل عليه، لكن القرآن يستدل به لأن كلام الله تعالى مقنع لكل أحد، ولهذا تلا هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)(السجدة: الآية16)
فإن قال قائل: لم يذكر في الحديث أنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد قال الله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)
فالجواب: أن هذه الآية لا يراد بها التلاوة، وإنما يراد بها الاستدلال، والآية الكريمة: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) يعني للتلاوة، وأحاديث كثيرة من هذا النوع يُذكر فيها الاستشهاد بالآيات،ولا يذكر فيها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
مسألة: كثير من الأخوة إذا أراد أن يقرأ قال: قال الله عزّ وجل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1)
وهذا تخليط، لأنه إذا قال: قال الله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أدخل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في مقول القول، وهذا غلط، وإذا كان ولابد أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقلها قبل، أي قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى.
ولكن الذي مرّ علينا كثيراً أن ما قصد به الاستدلال فإنه لايتعوّذ فيه بخلاف ما قصد فيه التلاوة، والآية ظاهرة: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل:98].
.17 فضيلة أولئك القوم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، لأنهم يشتغلون بالصلاة يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وليس الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع في اللهو واللغو والحرام، فإن هؤلاء بقاؤهم ساهرين إما مكروه، وإما محرّم حسب مايشتغلون به.
.18-ومن فوائد الآية التي استشهد بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ينبغي للإنسان أن يكون عند دعوة الله عزّ وجل خائفاً راجياً، لقوله: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً)(السجدة: الآية16)
والمراد دعاء العبادة ودعاء المسألة، فأنت إذا عبدت الله كن خائفاً راجياً، تخاف أن لايقبل منك،كما قال الله عزّ وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ )(المؤمنون: الآية60) أي خائفة أن لا يقبل منها، ولكن أحسن الظن بالله.
وأيضاً: كن راجياً ربك عزّ وجل حتى تسير إلى الله بين الخوف والرجاء.
وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك: هل الأولى أن يغلب الإنسان جانب الرجاء، أو الأولى أن يغلب جانب الخوف، أو يجعلهما سواء؟
فقال الإمام أحمد - رحمه الله-: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً، فأيهما غلب هلك صاحبه.
وقال بعض أهل العلم: ينبغي عند الموت أن يغلب جانب الرجاء، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لايَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ"[218] أما في حال الصحة فيغلب جانب الخوف لأجل أن يحمله خوفه على الاستقامة.
وقال بعض أهل العلم: في حال فعل الطاعة يغلب جانب الرجاء، وفي حال الهمّ بالمعصية يغلب جانب الخوف، وهذا حسن.
ووجه الأول أنه في حال الطاعة يغلب جانب الرجاء هو أنه يقول: إن الذي منَّ عليَّ بهذه الطاعة سيمنُّ عليَّ بقبولها، فيجعل منّة الله تعالى عليه بها دليلاً على منّة الله تعالى عليه بقبولها، ويغلب جانب الرجاء، ويقول: قمت بما أمرت به وأرجو من الله الثواب.
أما إذا همّ بالمعصية فيغلب جانب الخوف لئلا يقع في المعصية، وهذا القول من حيث المعنى أحسن الأقوال، لكن مع ذلك لانحكم به على كل فرد، إذ قد يعرض للإنسان حالات يغلب فيها الرجاء وحالات يغلب فيها الخوف، لكن نحن نتكلم عن الخوف والرجاء من حيث هما، لا باعتبار كل واحد من الناس .
.19 ومن فوائد الحديث في ضمن الآية: فضيلة الإنفاق مما رزق الله العبد، لقوله: ) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(السجدة: من الآية16).
وهل المراد الرزق الطيب أو مطلق الرزق؟
الآية مطلقة، ولكن من اكتسب مالاً محرّماً، أو أنفق مالاً محرّماً فلا مدح له، كمن سرق مالاً ثم ذهب يتصدق به، فلا يستقيم. أو تصدق بخنزير فلا يستقيم. وعلى هذا يكون المراد بالرزق في الآية الرزق الطيب.
20- ومن فوائد الحديث: أن رأس الأمر - أي أمر الدنيا والآخرة- الإسلام. والإسلام هوما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ بعد بعثته لا إسلام إلا ما كان على شريعته، وعلى هذا فلو سألك سائل: هل اليهود مسلمون؟ هل النصارى مسلمون؟
فالجواب: أن اليهود في حال قيام شريعة التوراة إذا اتبعوها فهم مسلمون، وكذلك النصارى في حال قيام الإنجيل إذا اتبعوه فهم مسلمون، ولهذا في القرآن الكريم ذكر الإسلام لهؤلاء وهؤلاء. وأما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كل من كفر به ليس بمسلم حتى لو قال:أني أسلمت.
.21 أن الصلاة عمود الدين، والعمود لا يستقيم البناء إلا به.
ويتفرّع على هذا: أن من ترك الصلاة فهو كافر، لأن العمود إذا سقط لم يستقم البناء، وهذا القول هو القول الراجح الذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم حتى حكي هذا القول إجماعاً من الصحابة، وهو مقتضى النظر والقياس، إذ كيف يمكن لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يحافظ على ترك الصلاة؟ لايمكن هذا أبداً.
وقد كتبنا في هذا رسالة موجزة - والحمد لله - لكنها تضمنت ذكر الأدلة على كفر تارك الصلاة والجواب عن قول من يقول: إنه لايكفر.
وليس عند من يقول إنه لايكفر دليل، إلا نصوصاً عامة تخص بنصوص كفر تارك الصلاة، أو نصوص قيدت بما لايمكن مع هذا القيد أن يترك الصلاة، أو نصوص قيدت بقيود لا يمكن معها ترك الصلاة.
المهم على كل حال هذه الرسالة ينبغي لكل إنسان أن يقرأها متجرداً عن الهوى، وفي ظني أنه لو شاع هذا القول بين الناس لارتدع كثير من الناس عن ترك الصلاة، وأما إذا قيل: ترك الصلاة فسق من الفسوق فكثير من الناس لا يبالي أن يكون فاسقاً أو مستقيماً.
ويرى بعض أهل العلم من السابقين واللاحقين أن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها بلا عذر كفر.
ولكن الذي أرى: أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة نهائياً.
.22 أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والذروة هو الشيء العالي، لأنه إذا استقام الجهاد فمقتضاه أن المسلمين تكون كلمتهم هي العليا، وهذا ذروة السنام.
ولكن يقيد هذا الإطلاق بما إذا كان الجهاد في سبيل الله عزّ وجل يتعيّن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية - أي حمية لقومه وعصبية - ويقاتل شجاعة - أي لأنه شجاع، والشجاع يحب القتال، ويقاتل ليرى مكانه، وفي لفظ: ويقاتل رياءً،أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا كله وقال: "مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليَا فَهُوَ فِي سَبِيْلِ اللهِ" هذا الميزان.
ولذلك نجد الذين قاتلوا حميّة ممن ينتسبون للإسلام لم ينجحوا، ولن ينجحوا، فماذا حصل من قتال العرب لليهود؟ حصل الفشل، وحصلت الهزيمةلأنهم لايقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، بل يقاتلون: للقومية العربية، هذه القومية حصل بسببها من المفاسد بأن دخل فيهم النصارى واليهود العرب مادام مناط الحكم هو العروبة، كما دخل فيهم الشيوعيون وغيرهم إذا كانوا عرباً، ولايعقل أن يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً يقاتل لحماية الإسلام.
وخرج الملايين من المسلمين من غير العرب وصار في نفوسهم شيء وقالوا: لماذا تخرجوننا من القتال؟ ولهذا صارت الهزيمة والفشل الذي ليس بعده استرداد للعزة والعلو، وإلا قد يكون هزيمة يبتلي الله بها كما حصل في أحد ولكن استردّ المسلمون عزهم وعلوّهم.
أما نحن فلن نزال في أرجوحة،كان الناس في عنفوان العروبة - كما يقولون- عندهم ثلاث لاءات يسمّونها اللاءات الثلاث: لاصلح، لاسلام، ولا استسلام. والآن يهود براك الخبيث جاء بخمس لاءات،والعرب الآن يلهثون وراءهم يطلبون الصلح، ولكنه ليس بحاصل إلا على ثروات العرب، وربما دمائهم أيضاً.
فالمهم: أن الجهاد المحمود المفروض على ا لمسلمين هو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
.23-أن ملاك هذا كله كف اللسان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"
.24 خطورة اللسان، فاللسان من أخطر ما يكون، فإن الإنسان ربما يتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار كذا وكذا،سنوات، وهو لم يلق لها بالاً، يتكلم بكلمة الكفر لا يلقي لها بالاً فيكفر ويرتد - والعياذ بالله -.
والغيبة الآن ملأت المجالس إلا ماشاء الله، وهي من آفات اللسان.
والكذب من آفات اللسان، والسبّ مقابلة وجهاً لوجه من آفات اللسان، والنميمة من آفات اللسان، فإذا حفظ الإنسان لسانه حفظه الله عزّ وجل، ولهذا جاء في الحديث: "مَنْ يَضْمَنُ لِي مَابَيْنَ لَحْيَيْهِ وفَخِذَيْهِ أَضمَنُ لَهُ الجَنَّةَ"[219] أي من كفَّ عن الزنا وعن القول المحرّم فإنه يدخل الجنة.
.25 التعليم بالقول وبالفعل، لقوله: "أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" ولم يقل: كفّ عليك لسانك، بل أخذ بلسانه وقال: كفّ عليك هذا، لأنه إذا حصل الفعل رأت العين وانطبعت الصورة في القلب بحيث لاينسى، والمسموع ينسى لكن المرئي لاينسى،بل يبقى في صفحة الذهن إلى ماشاء الله عزّ وجل.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أحياناً يعلمون الناس بالفعل، ومن ذلك لما سئل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا بماء وتوضّأ أمام الناس[220]، حتى يفقهوا ذلك بالفعل.
.26-أن الصحابة رضي الله عنهم لايبقون في نفوسهم إشكالاً ولاقلقاً، بل يسألون عنه حتى ينكشف الأمر، قال معاذ رضي الله عنه: "وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلّم به؟" وهذا إشكال يرد، لأن الإنسان إذا كان مؤاخذاً بما يتكلّم به فما أكثر المؤاخذة لكثرة الكلام فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا نأخذ فائدة عظيمة وهي:أن ما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد في الكتاب والسنة من مسائل الاعتقاد فالواجب الكفّ عنها، فإذا سألك إنسان عن شيء في الاعتقاد،سواء في أسماء الله، أو صفات الله أو أفعال الله، أو في اليوم الآخر أو غيره ولم يسأل عنه الصحابة فقل له:هذا بدعة، لو كان خيراً لسبقونا إليه لأنهم - والله - أحرص منا علىالعلم، وأشد منا خشية لله تعالى.
.27 جواز إطلاق القول الذي لايقصد وإنما يدرج علىاللسان، لقوله: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ" هذه الكلمة دعاء، لكنها تجري على الألسن لقصد الحث لا للدعاء، وهي موافقة للقاعدة الشرعية،وهي أن الله تعالى لا يؤاخذ باللغو كما قال الله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)(المائدة: الآية89) وفي الآية الأخرى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(البقرة: الآية225) وعلى هذا فما يجري على اللسان من الأيمان لا يؤاخذ به الإنسان، فمثلاً: دائماً يقول لك صاحبك: هل ستذهب إلى فلان؟ فتقول: لا والله لن أذهب إليه، ثم تذهب، فلا كفارة عليك، لأن هذا جرى علىاللسان بلا قصد، فما لايعقد عليه القلب فإنه ليس بشيء،ولا يؤاخذ به الإنسان.
.28 أن أهل النار - والعياذ بالله - قد يكبون في النار على وجوههم، لقوله: "وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم أوقال: عَلَى مَنَاخِرِهِم" وهذا اختلاف لفظ والمعنىواحد،لأن المنخر في الوجه، واسمع قول الله عزّ وجل: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ)(الزمر: الآية24) العادة أن الإنسان يتقي العذاب بيده، لكن أهل النار - أجارنا الله منها بمنّه وكرمه - لا يستطيعون، تلفح وجوههم النار،يتقي بوجهه سوء العذاب
وهذا دليل على كمال الإهانة، لأن الوجه محل الإكرام، فإذا أهين إلى هذا الحد فهذا غاية ما يكون من الذلّ، قال الله تعالىنقره لعرض الصورة في صفحة مستقلةوَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ )(الشورى: الآية45)
.29 الحذر من إطلاق اللسان، وقد مرّ علينا في الأحاديث السابقة "مَنْ كَان يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَو لِيَصْمُتْ" والله لو سرنا على هذا لسلمنا من أشياء كثيرة، وما أكثر ما يقول الإنسان شيئاً ثم يندم في الحال، لكن الكلمة إذاخرجت فهي كالرصاصة تخرج من البندق، لايمكن ردّها، لكن مادامت في قلبك يمكنك أن تتحكّم فيها.
30- تحرّي مانقل في الحديث من أقوال رسول الله حيث قال: "عَلَى وُجُوهِهِم أو مَنَاخِرِهِم" وهذا يدلّ على الأمانة التامّة في نقل الأحاديث. ولله الحمد .




رد مع اقتباس
قديم 06-08-2012, 04:35 PM   المشاركة رقم: 30
الكاتب
علاء هارون
موقوف

البيانات
تاريخ التسجيل: Jan 2012
رقم العضوية: 7713
الدولة: Tanta
المشاركات: 998
بمعدل : 0.21 يوميا

الإتصالات
الحالة:
علاء هارون غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : علاء هارون المنتدى : استراحة اف اكس ارابيا
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثلاثون

عَنْ أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ نَاشِرٍ رضي الله عنه عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)[221] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
الشرح
" فَرَضَ" أي أوجب قطعاً، لأنه من الفرض وهو القطع.
" فَرَائِضَ" ولا نقول: ( فرائضاً) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى الجموع.
" فَرَضَ فَرَائِضَ" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام،والحج،وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى.
" فَلا تُضَيِّعُوهَا" أي تهملوها فتضيع ، بل حافظوا عليها.
"وَحَدَّ حُدودَاً فَلا تَعتَدوها" الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل:إن المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول،أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عزّ وجل الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول:لا تعتده أي لاتتجاوزه، والمحرم نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل والشرب على الصائم قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا )(البقرة: الآية229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقرَبُوهَا )[البقرة:187].
"وَحَرَّمَ أَشيَاء" (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث الممدودة.
"فَلا تَنتَهِكوهَا" أي فلا تفعلوها، مثل :الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وأشياء كثيرة لا تحصى.
"وَسَكَتَ عَنْ أَشيَاء رَحمَةً لَكُمْ غَيرَ نسيَان فَلا تَبحَثوا عَنهَا" سكت عن أشياء أي لم يحرمها ولم يفرضها.
قال: سكت بمعنى لم يقل فيها شيئاً ، ولا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: "غَيْرَ نسيَان" أي أنه عزّ وجل لم يتركها ناسياً ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: الآية64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
"فَلا تَبحَثوا عَنهَا" أي لا تسألوا، مأخوذ من بحث الطائر في الأرض، أي لا تُنَقِّبُوا عنها،بل دعوها.
الفوائد من هذا الحديث:
1-إثبات أن الأمر لله عزّ وجل وحده، فهو الذي يفرض،وهو الذي يوجب،وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله،لقوله: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائض" ...وقَالَ: "وَحَرمَ أَشيَاء"
فإن قال قائل: هل الفرض والواجب بمعنى واحد، أو الفرض غير الواجب؟
فالجواب:أما من حيث التأثيم بترك ذلك فهما واحد.
وأما من حيث الوصف:هل هذا فرض أو واجب؟ فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا ، فقال بعضهم:
الفرض ما كان دليله قطعياً، والواجب ما كان دليله ظنياً.
وقال آخرون: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة.
وكلا القولين ضعيف، والصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .
.2أن الدين الإسلامي ينقسم إلى فرائض ومحرمات.
.3وجوب المحافظة على فرائض الله عزّ وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن مفهومه وجوب المحافظة عليها.
.4أن الله عزّ وجل حد حدوداً، بمعنى أنه جعل الواجب بيناً والحرام بيناً: كالحد الفاصل بين أراضي الناس، وقد سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
.5تحريم تعدي حدود الله، لقوله: "فَلاَ تَعتَدوهَا".
وانظر كيف كرر الله عزّ وجل النهي عن التعدي إلى حدود الله في مسألة الطلاق،يتبين لك أهمية النكاح عقداً وإطلاقاً.
.6أنه لا يجوز تجاوز الحد في العقوبات،فالزاني مثلاً إذا زنا وكان بكراً فإنه يجلد مائة جلدة ويغرّب عاماً، ولا يجوز أن نزيد على مائة جلدة، ونقول يجلد مائة وخمسين مثلاً، فإن هذا محرم.
فإن قال قائل: إذا اقتصرنا على مائة جلدة ربما يكثر الزنا، وإذا زدنا يقل؟
فالجواب:أأنتم أعلم أم الله؟ وما دام الله عزّ وجل فرض مائة جلدة فلا نتجاوزها، بالاضافة إلى تغريب عام على خلاف بين العلماء في ذلك، هل يغرب أو لا، لأنه ثبت بالسنة، والخلاف في هذا معروف.
ومن هنا نعرف أن عقوبة شارب الخمر ليست حداً، ولا يمكن أن نقول:إنها حد فلو كانت حداً ما تجاوزها عمر والصحابة رضي الله عنهم،
ثم هناك دليل آخر من نفس القضية، لما استشار عمر الصحابة رضي الله عنهم ، قال عبد الرحمن بن عوف:يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون،ويعني بذلك حد القذف.
ولو كانت عقوبة شارب الخمر حداً لكان أخف الحدود أربعين، وهذا شيء واضح،لكن - سبحان الله - الفقهاء - رحمهم الله - يرونه حداً، وعند التأمل يتبين أن القول بأنه حد ضعيف، ولا يمكن لعمر رضي الله عنه ولا لغيره أن يتجاوز حد الله عزّ وجل.
.7وصف الله عزّ وجل بالسكوت، هذا من تمام كماله عزّ وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.
.8أنه يحرم على الإنسان أن ينتهك محارم الله عزّ وجل، لقوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلا تَنتَهِكُوهَا".
وطرق التحريم كثيرة، منها: النهي، ومنها: التصريح بالتحريم،ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات التحريم طرق.
.9أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن هذا في غير العبادات،فالعبادات قد حرم الله عزّ وجل أن يشرع أحد الناس عبادة لم يأذن بها الله عزّ وجل، فتدخل في قوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلاَ تَنتَهِكُوهَا".
ولهذا نقول:إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عزّ وجل عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها،وغير ذلك الأصل فيه الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.
وحينئذ نذكر مسألة يكثر السؤال عنها،ربما نعرف حكمها من هذا الحديث: يسأل بعض الناس ولاسيما النساء:هل يجوز للإنسان أن يزيل شعر الساق، أو شعر الذراع أو لا يجوز؟
فالجواب: الشعور ثلاثة أقسام:
الأول : ما نهي عن إزالته.
الثاني : ما أمر بإزالته.
الثالث: ما سكت عنه.
فأما ما أمر بإزالته فمعروف:كالعانة والإبط للرجال والنساء والشارب بالنسبة للرجال ، فهذا مأمور بإزالته، لكن الشارب لا يؤمر بإزالته نهائياً كالحلق مثلاً، حتى إن الإمام مالك- رحمه الله - قال: ينبغي أن يؤدب من حلق شاربه،لأن الحديث أحفوا الشوَارب[222]
والثاني: ما نهي عن إزالته كشعر اللحية بالنسبة للرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها وقال: خَالِفُوا المَجوسَ[223] خَالِفُوا المُشرِكينَ[224] فلا يحل لأحد أن يحلق لحيته، بل ولا أن ينقص منها على القول الراجح حتى لو زادت على القبضة.
وأما إجازة الفقهاء- رحمهم الله - قص ما زاد على القبضة واستدلالهم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما[225] ، فهذا رأي لكنه مخالف لظاهر الحديث.
وابن عمر رضي الله عنهما ليس يقص ما زاد على القبضة في كل السنة، إنما يفعل ذلك إذا حج أو اعتمر فقط، وهذا فرق بين ما شغف به بعض الناس وقالوا: إن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أخذ ما زاد على القبضة.
وكأنه - والله أعلم - رأى أن هذا من كمال التقصير أو الحلق.
ومع ذلك فرأيه رضي الله عنه غير صواب، فالصواب فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجب أن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى حديث الأمر بإعفاء اللحية وهو يفعله، لكن نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما عنده من العبادة ما فات كثيراً من الناس إلا أنه تأول ، والمتأول مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
القسم الثالث:بقية الشعور التي ليس فيها أمر ولا نهي، فقال بعض الناس:إن أخذها حرام،لقول الله تعالى عن إبليس: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)(النساء: الآية119) هذا يستثنى منه ما أمر بإزالته كالختان وما أشبه ذلك.
قالوا: وهذا مغير لخلق الله، بينما كان ساقه فيه الشعر أو ذراعه فيه الشعر أصبح الآن ليس فيه شعر.
ولاشك أن هذا القول والاستدلال وجيه، لكن إذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام قلنا: هذا مما سكت عنه، لأنه لو كان ينهى عنه لألحق بما نهي عنه، وهذه قرينة تمنع أن يكون هذا من باب تغيير خلق الله عزّ وجل أو يقال: هو من التغيير المباح.
والذي نرى في هذه المسالة : أن الشعر يبقى ولا يحلق ولا يقص، اللهم إلا إذا كثر بالنسبة للنساء حتى شوه الخلقة،فالمرأة محتاجة إلى الجمال والتجمل، فلا بأس.
وأما الرجال فيقال: كلما كثر الشعر دلّ ذلك على قوة الرجل.
.10أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله .
وهل هذا النهي في عهد الرسالة ، أم إلى الآن ؟
في هذا قولان للعلماء منهم من قال: هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله،كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ" فقام الأقرع وقال:يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَو قُلتُ نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوع"[226] ، من أعظم الناس جرماً من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث الإنسان.
ولكن الصواب في هذه المسالة أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.
ومن ذلك: البحث عن اللحوم وعن الأجبان وعما يرد إلى البلاد من بلاد الكفار فلا تبحث، ولا تقل: هل هذا حلال أو حرام؟ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن اللحم في السوق، ما كان من لحم في سوقنا فسوف نشتريه ولا نسأل.
كذلك أيضاً لا نبحث عن مسائل الغيب ونتعمق فيها، ولا نبحث في صفات الله عزّ وجل عن كيفيتها، لأن هذا من التعمق، ولا نأتي بمعضلات المسائل التي فيها: أرأيت إن كان كذا، ولو كان كذا، ولو كان كذا كما يوجد من بعض طلبة العلم الآن، يوجد أناس يفرضون مسائل ليست واقعة ولن تقع فيما يظهر، ومع ذلك يسألون ، وهم ليسوا في مكان البحث، بل يسألون سؤالاً عاماً، فهذا لا ينبغي.
ومن ذلك أيضاً :ما كان الناس قد عاشوا عليه لا تبحث عنه إلا إذا علمت أنه حرام،فيجب بيان الحكم .
من ذلك : الذين قالوا:إن أذان الجمعة الثاني الذي زاده عثمان رضي الله عنه هذا بدعة لا يجوز، فنقول لهم: أين الدليل؟ ثم يأتي إنسان آخر،ويقول : ليس بين أذان الجمعة الأول والثاني إلا دقائق، فنقول له: من الذي قال لك ابحث عن هذا؟ فالناس من أزمنة كثيرة تتوالى عليهم العلماء والأذان الأول يكون قبل الثاني بخمس وأربعين دقيقة أو ستين دقيقة، والناس يمشون على هذا، فلا تبحث، دع الناس على ما هم عليه.
ثم لو فرض أنه ثبت أن بين الأذان الثاني والأول في زمن عثمان رضي الله عنه خمس أو عشر دقائق، فالوقت اختلف الآن، كانت المدينة صغيرة أقل من قرية من قرانا اليوم، أما اليوم فتباعدت الأقطار حيث يحتاج الإنسان أن يأتي من أقصى المدينة إلى المسجد إلى وقت، فليقدم الأذان الأول بحيث يتأهب الناس ويحضرون.
أشياء كثيرة من هذا النوع،ولكن هذا الحديث ميزان "فلا تَبحَثُوا عَنهَا".
.11إثبات رحمة الله عزّ وجل في شرعه، لقوله: "رَحمَةً بِكُم" وكل الشرع رحمة،لأن جزاءه أكثر بكثير من العمل،فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومع ذلك فالله عزّ وجل خفف عن العباد ، وسكت عن أشياء كثيرة لم يمنعهم منها ولم يلزمهم بها.
.12انتفاء النسيان عن الله عزّ وجل، لقوله "غَيرَ نسيَان" وقد جاء ذلك في القرآن الكريم،فقال الله عزّ وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)[مريم: 64] وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه: 52)
فإن قال قائل: ما الجواب عن قول الله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)(التوبة: الآية67) فأثبت لنفسه النسيان؟
فالجواب:أن المراد:النسيان هنا نسيان الترك، يعني تركوا الله فتركهم. فهؤلاء تعمدوا الشرك وترك الواجب، ولم يفعلوا ذلك نسياناً. إذاً: (نَسُوا اللَّهَ) [التوبة:67] أي تركوا دين الله (فَنَسِيَهُمْ) أي فتركهم.
أما النسيان الذي هو الذهول عن شيء معلوم فهذا لا يمكن أن يوصف الله عزّ وجل به، بل يوصف به الإنسان،لأن الإنسان ينسى، ومع ذلك لا يؤاخذ بالنسيان لأنه وقع بغير اختيار.
.13حسن بيان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ساق الحديث بهذا التقسيم الواضح البين والله أعلم.



عرض البوم صور علاء هارون  
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 06-08-2012, 04:35 PM
علاء هارون علاء هارون غير متواجد حالياً
موقوف
افتراضي رد: شرح الاربعين النووية ((للشيخ محمد بن صالح العثيمين غفر الله له ))

الحديث الثلاثون

عَنْ أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ نَاشِرٍ رضي الله عنه عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)[221] حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
الشرح
" فَرَضَ" أي أوجب قطعاً، لأنه من الفرض وهو القطع.
" فَرَائِضَ" ولا نقول: ( فرائضاً) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى الجموع.
" فَرَضَ فَرَائِضَ" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام،والحج،وبر الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى.
" فَلا تُضَيِّعُوهَا" أي تهملوها فتضيع ، بل حافظوا عليها.
"وَحَدَّ حُدودَاً فَلا تَعتَدوها" الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل:إن المراد بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول،أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عزّ وجل الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول:لا تعتده أي لاتتجاوزه، والمحرم نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل والشرب على الصائم قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا )(البقرة: الآية229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقرَبُوهَا )[البقرة:187].
"وَحَرَّمَ أَشيَاء" (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث الممدودة.
"فَلا تَنتَهِكوهَا" أي فلا تفعلوها، مثل :الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وأشياء كثيرة لا تحصى.
"وَسَكَتَ عَنْ أَشيَاء رَحمَةً لَكُمْ غَيرَ نسيَان فَلا تَبحَثوا عَنهَا" سكت عن أشياء أي لم يحرمها ولم يفرضها.
قال: سكت بمعنى لم يقل فيها شيئاً ، ولا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: "غَيْرَ نسيَان" أي أنه عزّ وجل لم يتركها ناسياً ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: الآية64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
"فَلا تَبحَثوا عَنهَا" أي لا تسألوا، مأخوذ من بحث الطائر في الأرض، أي لا تُنَقِّبُوا عنها،بل دعوها.
الفوائد من هذا الحديث:
1-إثبات أن الأمر لله عزّ وجل وحده، فهو الذي يفرض،وهو الذي يوجب،وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله،لقوله: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائض" ...وقَالَ: "وَحَرمَ أَشيَاء"
فإن قال قائل: هل الفرض والواجب بمعنى واحد، أو الفرض غير الواجب؟
فالجواب:أما من حيث التأثيم بترك ذلك فهما واحد.
وأما من حيث الوصف:هل هذا فرض أو واجب؟ فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا ، فقال بعضهم:
الفرض ما كان دليله قطعياً، والواجب ما كان دليله ظنياً.
وقال آخرون: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة.
وكلا القولين ضعيف، والصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .
.2أن الدين الإسلامي ينقسم إلى فرائض ومحرمات.
.3وجوب المحافظة على فرائض الله عزّ وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن مفهومه وجوب المحافظة عليها.
.4أن الله عزّ وجل حد حدوداً، بمعنى أنه جعل الواجب بيناً والحرام بيناً: كالحد الفاصل بين أراضي الناس، وقد سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
.5تحريم تعدي حدود الله، لقوله: "فَلاَ تَعتَدوهَا".
وانظر كيف كرر الله عزّ وجل النهي عن التعدي إلى حدود الله في مسألة الطلاق،يتبين لك أهمية النكاح عقداً وإطلاقاً.
.6أنه لا يجوز تجاوز الحد في العقوبات،فالزاني مثلاً إذا زنا وكان بكراً فإنه يجلد مائة جلدة ويغرّب عاماً، ولا يجوز أن نزيد على مائة جلدة، ونقول يجلد مائة وخمسين مثلاً، فإن هذا محرم.
فإن قال قائل: إذا اقتصرنا على مائة جلدة ربما يكثر الزنا، وإذا زدنا يقل؟
فالجواب:أأنتم أعلم أم الله؟ وما دام الله عزّ وجل فرض مائة جلدة فلا نتجاوزها، بالاضافة إلى تغريب عام على خلاف بين العلماء في ذلك، هل يغرب أو لا، لأنه ثبت بالسنة، والخلاف في هذا معروف.
ومن هنا نعرف أن عقوبة شارب الخمر ليست حداً، ولا يمكن أن نقول:إنها حد فلو كانت حداً ما تجاوزها عمر والصحابة رضي الله عنهم،
ثم هناك دليل آخر من نفس القضية، لما استشار عمر الصحابة رضي الله عنهم ، قال عبد الرحمن بن عوف:يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون،ويعني بذلك حد القذف.
ولو كانت عقوبة شارب الخمر حداً لكان أخف الحدود أربعين، وهذا شيء واضح،لكن - سبحان الله - الفقهاء - رحمهم الله - يرونه حداً، وعند التأمل يتبين أن القول بأنه حد ضعيف، ولا يمكن لعمر رضي الله عنه ولا لغيره أن يتجاوز حد الله عزّ وجل.
.7وصف الله عزّ وجل بالسكوت، هذا من تمام كماله عزّ وجل، أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم.
.8أنه يحرم على الإنسان أن ينتهك محارم الله عزّ وجل، لقوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلا تَنتَهِكُوهَا".
وطرق التحريم كثيرة، منها: النهي، ومنها: التصريح بالتحريم،ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات التحريم طرق.
.9أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن هذا في غير العبادات،فالعبادات قد حرم الله عزّ وجل أن يشرع أحد الناس عبادة لم يأذن بها الله عزّ وجل، فتدخل في قوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلاَ تَنتَهِكُوهَا".
ولهذا نقول:إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عزّ وجل عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها،وغير ذلك الأصل فيه الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.
وحينئذ نذكر مسألة يكثر السؤال عنها،ربما نعرف حكمها من هذا الحديث: يسأل بعض الناس ولاسيما النساء:هل يجوز للإنسان أن يزيل شعر الساق، أو شعر الذراع أو لا يجوز؟
فالجواب: الشعور ثلاثة أقسام:
الأول : ما نهي عن إزالته.
الثاني : ما أمر بإزالته.
الثالث: ما سكت عنه.
فأما ما أمر بإزالته فمعروف:كالعانة والإبط للرجال والنساء والشارب بالنسبة للرجال ، فهذا مأمور بإزالته، لكن الشارب لا يؤمر بإزالته نهائياً كالحلق مثلاً، حتى إن الإمام مالك- رحمه الله - قال: ينبغي أن يؤدب من حلق شاربه،لأن الحديث أحفوا الشوَارب[222]
والثاني: ما نهي عن إزالته كشعر اللحية بالنسبة للرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها وقال: خَالِفُوا المَجوسَ[223] خَالِفُوا المُشرِكينَ[224] فلا يحل لأحد أن يحلق لحيته، بل ولا أن ينقص منها على القول الراجح حتى لو زادت على القبضة.
وأما إجازة الفقهاء- رحمهم الله - قص ما زاد على القبضة واستدلالهم بفعل ابن عمر رضي الله عنهما[225] ، فهذا رأي لكنه مخالف لظاهر الحديث.
وابن عمر رضي الله عنهما ليس يقص ما زاد على القبضة في كل السنة، إنما يفعل ذلك إذا حج أو اعتمر فقط، وهذا فرق بين ما شغف به بعض الناس وقالوا: إن ابن عمر رضي الله عنهما يرى جواز أخذ ما زاد على القبضة.
وكأنه - والله أعلم - رأى أن هذا من كمال التقصير أو الحلق.
ومع ذلك فرأيه رضي الله عنه غير صواب، فالصواب فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجب أن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى حديث الأمر بإعفاء اللحية وهو يفعله، لكن نعلم أن ابن عمر رضي الله عنهما عنده من العبادة ما فات كثيراً من الناس إلا أنه تأول ، والمتأول مجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
القسم الثالث:بقية الشعور التي ليس فيها أمر ولا نهي، فقال بعض الناس:إن أخذها حرام،لقول الله تعالى عن إبليس: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)(النساء: الآية119) هذا يستثنى منه ما أمر بإزالته كالختان وما أشبه ذلك.
قالوا: وهذا مغير لخلق الله، بينما كان ساقه فيه الشعر أو ذراعه فيه الشعر أصبح الآن ليس فيه شعر.
ولاشك أن هذا القول والاستدلال وجيه، لكن إذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام قلنا: هذا مما سكت عنه، لأنه لو كان ينهى عنه لألحق بما نهي عنه، وهذه قرينة تمنع أن يكون هذا من باب تغيير خلق الله عزّ وجل أو يقال: هو من التغيير المباح.
والذي نرى في هذه المسالة : أن الشعر يبقى ولا يحلق ولا يقص، اللهم إلا إذا كثر بالنسبة للنساء حتى شوه الخلقة،فالمرأة محتاجة إلى الجمال والتجمل، فلا بأس.
وأما الرجال فيقال: كلما كثر الشعر دلّ ذلك على قوة الرجل.
.10أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله .
وهل هذا النهي في عهد الرسالة ، أم إلى الآن ؟
في هذا قولان للعلماء منهم من قال: هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله،كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ" فقام الأقرع وقال:يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَو قُلتُ نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوع"[226] ، من أعظم الناس جرماً من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث الإنسان.
ولكن الصواب في هذه المسالة أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.
ومن ذلك: البحث عن اللحوم وعن الأجبان وعما يرد إلى البلاد من بلاد الكفار فلا تبحث، ولا تقل: هل هذا حلال أو حرام؟ ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل عن اللحم في السوق، ما كان من لحم في سوقنا فسوف نشتريه ولا نسأل.
كذلك أيضاً لا نبحث عن مسائل الغيب ونتعمق فيها، ولا نبحث في صفات الله عزّ وجل عن كيفيتها، لأن هذا من التعمق، ولا نأتي بمعضلات المسائل التي فيها: أرأيت إن كان كذا، ولو كان كذا، ولو كان كذا كما يوجد من بعض طلبة العلم الآن، يوجد أناس يفرضون مسائل ليست واقعة ولن تقع فيما يظهر، ومع ذلك يسألون ، وهم ليسوا في مكان البحث، بل يسألون سؤالاً عاماً، فهذا لا ينبغي.
ومن ذلك أيضاً :ما كان الناس قد عاشوا عليه لا تبحث عنه إلا إذا علمت أنه حرام،فيجب بيان الحكم .
من ذلك : الذين قالوا:إن أذان الجمعة الثاني الذي زاده عثمان رضي الله عنه هذا بدعة لا يجوز، فنقول لهم: أين الدليل؟ ثم يأتي إنسان آخر،ويقول : ليس بين أذان الجمعة الأول والثاني إلا دقائق، فنقول له: من الذي قال لك ابحث عن هذا؟ فالناس من أزمنة كثيرة تتوالى عليهم العلماء والأذان الأول يكون قبل الثاني بخمس وأربعين دقيقة أو ستين دقيقة، والناس يمشون على هذا، فلا تبحث، دع الناس على ما هم عليه.
ثم لو فرض أنه ثبت أن بين الأذان الثاني والأول في زمن عثمان رضي الله عنه خمس أو عشر دقائق، فالوقت اختلف الآن، كانت المدينة صغيرة أقل من قرية من قرانا اليوم، أما اليوم فتباعدت الأقطار حيث يحتاج الإنسان أن يأتي من أقصى المدينة إلى المسجد إلى وقت، فليقدم الأذان الأول بحيث يتأهب الناس ويحضرون.
أشياء كثيرة من هذا النوع،ولكن هذا الحديث ميزان "فلا تَبحَثُوا عَنهَا".
.11إثبات رحمة الله عزّ وجل في شرعه، لقوله: "رَحمَةً بِكُم" وكل الشرع رحمة،لأن جزاءه أكثر بكثير من العمل،فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومع ذلك فالله عزّ وجل خفف عن العباد ، وسكت عن أشياء كثيرة لم يمنعهم منها ولم يلزمهم بها.
.12انتفاء النسيان عن الله عزّ وجل، لقوله "غَيرَ نسيَان" وقد جاء ذلك في القرآن الكريم،فقال الله عزّ وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)[مريم: 64] وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طـه: 52)
فإن قال قائل: ما الجواب عن قول الله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)(التوبة: الآية67) فأثبت لنفسه النسيان؟
فالجواب:أن المراد:النسيان هنا نسيان الترك، يعني تركوا الله فتركهم. فهؤلاء تعمدوا الشرك وترك الواجب، ولم يفعلوا ذلك نسياناً. إذاً: (نَسُوا اللَّهَ) [التوبة:67] أي تركوا دين الله (فَنَسِيَهُمْ) أي فتركهم.
أما النسيان الذي هو الذهول عن شيء معلوم فهذا لا يمكن أن يوصف الله عزّ وجل به، بل يوصف به الإنسان،لأن الإنسان ينسى، ومع ذلك لا يؤاخذ بالنسيان لأنه وقع بغير اختيار.
.13حسن بيان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ساق الحديث بهذا التقسيم الواضح البين والله أعلم.




رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
((للشيخ, ليلى, الله, المئوية, الاربعين, العثيمين, شاهد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة



الساعة الآن 11:33 PM



جميع الحقوق محفوظة الى اف اكس ارابيا www.fx-arabia.com

تحذير المخاطرة

التجارة بالعملات الأجنبية تتضمن علي قدر كبير من المخاطر ومن الممكن ألا تكون مناسبة لجميع المضاربين, إستعمال الرافعة المالية في التجاره يزيد من إحتمالات الخطورة و التعرض للخساره, عليك التأكد من قدرتك العلمية و الشخصية على التداول.

تنبيه هام

موقع اف اكس ارابيا هو موقع تعليمي خالص يهدف الي توعية المستثمر العربي مبادئ الاستثمار و التداول الناجح ولا يتحصل علي اي اموال مقابل ذلك ولا يقوم بادارة محافظ مالية وان ادارة الموقع غير مسؤولة عن اي استغلال من قبل اي شخص لاسمها وتحذر من ذلك.

اتصل بنا

البريد الإلكتروني للدعم الفنى : support@fx-arabia.com
جميع الحقوق محفوظة اف اكس ارابيا – احدى مواقع Inwestopedia Sp. Z O.O. للاستشارات و التدريب – جمهورية بولندا الإتحادية.
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024 , Designed by Fx-Arabia Team