فيما بين عامي 2010 و2015 يتوقع أن يكون لدى المملكة المتحدة ثالث أكبر تخفيض في حصة الاقتراض الحكومي في الدخل القومي، وذلك من بين 29 من البلدان ذات الدخل العالي، ذلك أن آيسلندا وإيرلندا فقط سيكون الخفض فيهما أكثر من بريطانيا. وحتى من المتوقع أن يكون الخفض في الاقتراض المعدل دورياً، حسب الميزانية الخضراء التي تحظى بالإعجاب من معهد الدراسات المالية، ثاني أكبر تخفيض بعد اليونان.
لكن المملكة المتحدة ليست لديها أزمة مالية. وهذا يجعل تقشفها لافتاً للنظر. لقد اتضح ذلك على الصعيد المحلي في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. ففي ذلك المنتدى اتفق جورج أوزبورن، وزير مالية المملكة المتحدة، مع وزير مالية ألمانيا، فولفجانج شويبل، واختلف مع وزير الخزانة الأمريكي، تيم جيتنر. إن الأزمات توجد تحالفات غريبة.
إذن، ما الذي يفسر تقشف المملكة المتحدة المدهش؟ يجب أن تكون نقطة البداية هي حجم العجز نفسه. ففي عام 2010 كانت حصة الاقتراض المؤقت للمملكة المتحدة في الدخل القومي ثالث أعلى حصة بين البلدان ذات الدخل العالي، بعد الولايات المتحدة وإيرلندا. وبتعديله دورياً، يحتل الترتيب الثاني، مع الولايات المتحدة. إذن، ما الذي تشترك فيه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإيرلندا؟ لدى هذه البلدان جميعاً أنظمة مالية متضررة، وتراجعاً في أسعار المنازل، وماليات أسرية ضعيفة. تظهر حسابات المملكة المتحدة المالية أن هناك زيادة مفاجئة في الإنفاق الحكومي وانخفاضاً متواضعاً في الإيرادات نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ففي 2007/2008، وهو العام الأخير الذي لم يتأثر بالأزمة، كانت نسبة الإنفاق الحكومي الكلي إلى الناتج المحلي الإجمالي 41 في المائة، في حين كانت نسبة المقبوضات إلى الناتج الإجمالي 38.6 في المائة. من المؤكد أن العجز كان كبيراً جداً بالنسبة لتلك المرحلة من الدورة، حتى على أساس ما كان يعتقد آنذاك أنه احتمالات. لكنه لم يكن كارثة. وبعدئذ جاء الانفجار: قفزت نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 47.6 في المائة في عامين فقط، في حين انخفضت المقبوضات إلى 37.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت النتيجة ذلك العجز الكبير بنسبة 10.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2009/2010.
كان الاستنتاج الطبيعي أن القوة التي تكمن وراء التردي المالي الكبير الذي أدى إلى أكبر عجز مالي على الإطلاق في زمن السلم هي الزيادة الهائلة في الإنفاق. وهذا خطأ. فقد ارتفعت وتيرة الزيادة في الإنفاق قليلاً، وذلك نتيجة مباشرة للركود. لكن ما جعل نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي تقفز بتلك السرعة الكبيرة هو الانخفاض غير المتوقع في الناتج المحلي الإجمالي. وفي الوقت نفسه، انخفضت المقبوضات حتى بشكل أكثر حدة. ففي الفترة بين 2007/2008 و2009/2010، انخفض الناتج المحلي الإجمالي الاسمي 20.6 مليار جنيه استرليني (1.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) بينما انخفضت المقبوضات بنسبة 5 في المائة، إلى 27.3 مليار جنيه.
من الجوهري أن نفهم الافتراضات التي وضعتها حكومة المملكة المتحدة لتحديد استراتيجيتها المالية. كانت لديها خمسة افتراضات، بعضها خفي وبعضها أكثر صراحة.
أولا، قررت الحكومة أن الجزء الكبير من الناتج المحلي الإجمالي الذي تم فقدانه في الأزمة لن يعود أبداً. وهذا ما يوافق عليه مكتب المسؤولية عن الميزانية الذي تأسس حديثاً (وهو ابتكار مرحب به). وعند تطبيق افتراضاتها المتحفظة الخاصة بالنمو الاقتصادي التي صدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على التقدير الحالي المخيب للآمال للنتائج، الخاصة بعام 2010، يجد المرء أن الناتج المحلي الإجمالي لا يفوق مستويات عام 2007 حتى عام 2012. إن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2015 أعلى بنسبة 9.6 في المائة فقط مما كان عليه في 2007 – وهو معدل مركب بنسبة 1.2 في المائة سنوياً فقط في السنة. وهذا يقل بنسبة 7 في المائة عن التوجه التقديري للفترة من 1989 إلى 2010، وبنسبة 12 في المائة تقريباً عن التوجه للفترة من 1989 إلى 2007. وفي هذه الأيام، كما يلاحظ مايكل ديكس من بنك باركليز كابيتال، تبلغ تقديرات ''فجوة الناتج'' وهي الفرق بين الناتج الفعلي والمحتمل/ كحصة من الأخير- لعام 2010 نحو 4 في المائة، أو أقل. وتنخفض تقديراته إلى نسبة 2 في المائة. ونظراً لانخفاض معدلات الاستثمار الفعلية والمحتملة من بين أسباب أخرى، ربما يكون المعدل الأساسي للنمو الآن أقل من 2 في المائة سنوياً. وفي المجمل، فإن حجم اقتصاد ما بعد الأزمة أصغر كثيراً مما كان متوقعاً قبل الأزمة.
والافتراض الثاني هو أنه ينبغي العودة بنسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 40 في المائة في 2014/2015. وفي الحقيقة سيكون هذا أقل كثيراً من المتوسط الذي بلغ نحو 43 في المائة فيما بين 1970/1971 و2008/2009، والذي كان قريباً من المتوسط في عهد مارجريت تاتشر وجون ميجر. إن مستويات الإنفاق هذه تعتبر انعكاساً للقيم السياسية والاجتماعية، لا للضرورة الاقتصادية. لكن أرجو أن تلاحظوا أن أهداف الحكومة العمالية السابقة كانت صارمة بالقدر نفسه تقريباً: فقد كانت تتصور أن يكون الإنفاق الكلي بنسبة 41.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2014/2015. ويبدو أن هذا المستوى يمثل إجماعاً للسياسيين حول ما يمكن أن يتحمله دافعو الضرائب البريطانيون.
ثالثا، الحكومة مصممة على رفع نسبة المقبوضات إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى المستويات التي كانت عليها قبل الأزمة، عند مستوى أقل قليلاً من نسبة 39 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتطلب هذا إجراء بعض الزيادات الضريبية في ضوء ما يفترض أن يكون فقداناً دائماً للنشاط المالي. لكن تعديل الإنفاق أكبر كثيراً من التعديلات الضريبية. وبلغة النقد، فإن ما يزيد على 70 في المائة من التعديل المقترح في استعراض تشرين الأول (أكتوبر) للإنفاق يجري إنفاقه.
رابعاً، قررت الحكومة استخدام قاعدتين ماليتين جديدتين: إحداث توازن يعدل دورياً في الميزانية الحالية في نهاية المدة التي تغطيها التوقعات، وخفض الدين كحصة من الدخل القومي فيما بين 2014/2015 و2015/2016. ويعتقد المكتب الخاص بالمسؤولية عن الميزانية أن من المحتمل أن يتحقق هذان الهدفان. لكن التوقعات الواردة في الميزانية الخضراء ترى أن احتمال عدم تحققهما أكبر.أخيراً، وربما الأكثر أهمية، قررت الحكومة في ضوء ما رأته من وجود خطر كبير لانهيار الثقة في الماليات العامة للمملكة المتحدة أن عليها أن تعلن عن خططها المالية وتشرع في تنفيذها حالاً. ذلك أن الصدقية ليست وحدها المهددة، بل أن الإعلان عن النوايا المالية الجيدة لن يكون كافياً. وأضافت إلى ذلك الحسابَ المتمثل في أنه نظراً لقصر ذاكرة الناخبين، فإنهم سيكونون أكثر ميلاً للتسامح بشأن التخفيضات التي تجرى في بداية ولاية الحكومة أكثر من التخفيضات التي تجرى في آخرها.
كانت النتيجة إذن هي هذه الخطط المالية الصارمة بشكل استثنائي. لقد كانت هناك بدائل أمام الحكومة: فكان بإمكانها مثلاً أن تقرر الإبقاء على الإنفاق العام عالياً بصورة دائمة. لكن الافتراض الأكبر يتعلق بالنمو. لقد أكدتُ في السابق على خطورة أن يؤدي الانسحاب الكامل من الدعم المالي إلى انخفاض ليس فقط في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، بل في النمو المحتمل، وذلك عبر تأثيره السلبي على الاستثمار في رأس المال المادي والبشري. لكن هناك سؤالاً كبيراً ما زال يطرح نفسه: ما الخطة طويلة الأجل الخاصة بجانب العرض من الاقتصاد؟ كيف سينمو الاقتصاد؟ سيحدد ذلك إلى حد بعيد ما إذا كانت أمامنا فترة قصيرة من البؤس أو حقبة طويلة من الركود. هذا هو السؤال الذي أخطط لتناوله يوم الجمعة المقبل.